
في عالم أدب الطفل واليافعين، تُوجد أسماء تترك بصمة لا تُمحى من الذاكرة ، وقد تتجاوز حدود الكتابة لتصل إلى التأثير العميق في وجدان الأطفال والمراهقين، فتُشكِّلُ قيمهم وتُهذِّبُ سلوكهم، وتضيء لهم دروب المستقبل. ومن بين هؤلاء الكتّاب المبدعين، تبرز الأديبة الدكتورة علياء إبراهيم، المتخصصة في أدب الأطفال واليافعين، التي استطاعت عبر قصصها أن تغوص في أعماق احتياجات الطفل الحقيقية، وتساهم في بنائه النفسي والاجتماعي، مستخدمة أسلوبًا راقيًا يلامس شغاف قلوب الصغار وعقولهم، ويأخذهم في رحلة ممتعة إلى عوالم المعرفة والخيال. فهي لا تكتب للأطفال فحسب، بل تكتب من أجلهم، لتمنحهم الأدوات التي تساعدهم على فهم العالم من حولهم، وتكوين شخصيتهم المستقلة، والمساهمة في بناء مجتمع أفضل.
وقد دفعني فضولي الصحفي والأدبي إلى قراءة تحليلية لإنتاج الدكتورة علياء في مجال أدب الطفل واليافعين؛ خاصة أن الصدفة قد جمعتني بها منذ سنوات، فلمست فيها شخصية مُهتمة بقضايا الطفل واليافعين، بل والأسرة بأكملها. فقد التقيتُ بها في العديد من الندوات الثقافية منذ أكثر من عشر سنوات، كانت تتحدث عن “الاستمالات العاطفية في أغاني الأطفال” ضمن فعاليات أيام الشارقة التراثية، وكأنها دراسة علمية موثقة عن أغاني الأطفال، ثم قمت بتغطية صحفية لمحاضرتها عن “الدلالات التربوية في أدب الطفل واليافعين” في مهرجان القراءة للطفل بالشارقة عام 2012، وتابعت العديد من الدورات التدريبية التي شاركت بها في الاحتفالات السنوية بيوم العلم في إمارة عجمان، وكنت مع مستمعي إذاعة أبو ظبي أتابع برنامجها “تذكرة نجاح”، وحضرت توقيع كتابها الذي استهدف فئة اليافعين في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2012، وكان بعنوان “وداعا كابوس الاختبارات”، والذي كان محط اهتمام وسائل الإعلام في تلك الفترة.

ولم يكن غريبًا عليها أن تركز في إنتاجها للأطفال على موضوعات تهدف إلى بناء وعي الطفل العربي. فقد تناولت في أحد أعمالها -بعنوان “ذكاء سارة ينقذ يارا”- تركزت فيها كيفية تنشئة الطفل على حماية نفسه من التحرش بأسلوب جذاب يبتعد عن إثارة الخوف أو زرع الشك في الآخرين، بل يُولِّدُ لدى الأطفال الثقة بأنفسهم، وبناء حدود صحية مع الآخرين، حيث حرصت الكاتبة على استخدام مفردات راقية وهي تُعالج هذا الموضوع الشائك، وفي رأيي أن هذه القصة وظّفت الذكاء العاطفي والحوارات العائلية الدافئة لخلق وعي وقائي لدى الطفل، بالتوازي مع دور الأسرة في استخدام التكنولوجيا كوسيلة لتقديم هذه القيمة بشكل سلس وآمن.
وفي ظل جيل مُتَّهم بالأنانية والاستهلاك المفرط، تأتي مجموعتها القصصية “سحوره والجدة نورة” لتقدم نموذجًا مختلفًا عن الطفلة التي تتحول من حب التملك إلى ممارسة قيمة العطاء ومساعدة الآخرين، بأسلوب ممتع بعيد عن التلقين، فجسدت شخصيات هذه المجموعة القصصية مواقف حقيقية تجعل الطفل يتوحد معها، فيدرك بنفسه أن القوة الحقيقية لا تكمن في السيطرة أو الامتلاك، بل في القدرة على مشاركة الآخرين ودعمهم.

وتُعدُّ قصة “لماذا لا ينظر آسر إلى ياسر؟” إحدى الإضافات المهمة التي قدمتها لمكتبة الطفل مؤخرًا، وذلك خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025، حيث جاء موضوع القصة مُفاجأة لي لندرة معالجته في أدب الطفل، حيث تُسلِّطُ الضوء على هموم الأسرة التي تضم طفلًا من أصحاب الهمم والذي يحتاج إلى رعاية خاصة، وكيفية تعامل الأشقاء مع هذا الوضع الذي قد يخلق مشاعر تؤثر على صحتهم النفسية فيما بعد، ولذلك أرى أن القصة تطرح برنامجًا عمليًا للآباء والأمهات الذين ينتمون لهذه الفئة من الأسر، في كيفية تبسيط فكرة الاختلاف بين البشر بطريقة بسيطة وجذابة. ولعلي أقترح أن تكون هذه القصة ضمن حملات التوعية بثقافة الاختلاف، والتي يمكن أن تحد من ظاهرة العنصرية والتنمر التي شاعت بين أطفالنا ومراهقينا في الآونة الأخيرة، وتدعم قوانين دمج أصحاب الهمم في المجتمع.

ولم يقتصر الإنتاج الأدبي للدكتورة علياء إبراهيم على معالجة القضايا الفردية فقط في أدب الطفل واليافعين؛ بل توسع لتُسلِّطَ الضوء على الفئات المهمشة، مثل الأطفال الذين فقدوا أوطانهم بسبب الحروب من خلال رواية “أنا أحبك يا شادي” التي استهدفت فئة اليافعين، والتي صدرت في نسختها العربية عام 2022، وسوف تُطرح قريبًا باللغة الإنجليزية، حيث قامت بترجمتها الكاتبة والمترجمة غادة جاد، وقد علقت الأديبة الفلسطينية هناء عبيد على الرواية في قراءة نقدية تحليلية لها: “رواية (أنا أحبك يا شادي) تمثل إضافة للمكتبة العربية في مجال أدب اليافعين.” ترصد الرواية مأساة الأطفال والصبية الذين يعيشون معاناة حقيقية بعد أن فقدوا ذويهم وأوطانهم، واغتصبت الحروب أحلامهم وطفولتهم، لكن القصة لا تكتفي بنقل الألم، بل تبث الأمل من خلال شخصياتها التي تجد طرقًا للنهوض والتكيف رغم المعاناة.

لم تكتفِ الدكتورة علياء بدور الكاتبة فحسب، بل اتخذت من القصة وسيلة عملية لتنمية المهارات الحياتية للأطفال والمراهقين بما يساعدهم على مواجهة الواقع بكل تحدياته ومتغيراته، وذلك بصفتها مدربة معتمدة في مجال برامج الإبداع والابتكار والتفكير للأطفال والمراهقين؛ من خلال تقديمها ورش تدريبية تهدف إلى استخدام القصة في غرس القيم، والتأثير في وعي الناشئة، حيث تؤمن الدكتورة علياء بأن القصة ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة تعليمية وتربوية قادرة على إحداث تحول حقيقي في المجتمع، خاصة في ظل اهتمام العالم بالعلاج بالقراءة أو ما يُطلق عليه البيبلوثيربي، حيث ترى الدكتورة علياء أن استخدام القصة في مجال التدريب في مراحل الطفولة المبكرة، يتسق مع رؤية القيادة المصرية في مبادرة التنمية البشرية -“بداية جديدة لبناء الإنسان”- والتي ركزت على الاهتمام ببناء وتنمية الإنسان المصري، وكان الطفل المصري -في مراحله العمرية المختلفة- في مقدمة الفئات المستهدفة لهذه المبادرة وأهم أولوياتها.
#انتهى #
ش