قراءة تحليلية للكاتب حمادة فراعنة*
عندما يكتب حمادة فراعنة، فهو لا يروي مجرد أحداث، بل ينسج خيوط المشهد السياسي بحرفية عالية، يجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والتاريخ ليكشف كيف أصبحت عمان مركز ثقل في لعبة التوازنات الإقليمية. في مقاله “نحو علاقات أردنية أوروبية متزنة”، يقدم لنا صورة دقيقة عن تحول العلاقة الأردنية الأوروبية، ليس فقط من منظور الاتفاقيات المالية، بل من خلال قراءة معمقة للسياسات الدولية وتحولات الخطاب الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية.
1. ما بين سطور فراعنة: شراكة أم استثمار سياسي؟
لا ينظر فراعنة إلى اتفاقية الـ 3 مليارات يورو كمجرد دعم اقتصادي، بل كـ استراتيجية أردنية متقنة استطاعت أن تضع الأردن في موقع اللاعب المحوري في علاقته مع الاتحاد الأوروبي. الاتفاقية، التي تشمل منحًا واستثمارات وتمويلًا لدعم الاقتصاد، ليست صدفة أو منحة أوروبية مجانية، بل هي نتاج لعقود من التفاعل الأردني الأوروبي القائم على المصالح المتبادلة.
لكن لماذا أوروبا الآن؟
يُجيب فراعنة ضمنيًا عن هذا السؤال عندما يذكر أن أوروبا لم تعد تنظر إلى الشرق الأوسط كساحة صراعات فقط، بل كمفتاح لاستقرارها الداخلي. أزمات اللاجئين، وتصاعد التطرف، والتحولات الجيوسياسية دفعت الاتحاد الأوروبي إلى إعادة ضبط بوصلته السياسية، والأردن هو الشريك الأكثر ثباتًا الذي يمكن الاعتماد عليه.
2. كيف أدار الأردن الدبلوماسية بذكاء؟
يشير فراعنة إلى أن الأردن لم يكن مجرد متلقٍ للمساعدات، بل كان فاعلًا في توجيه الموقف الأوروبي تجاه القضايا الإقليمية. في أكتوبر 2023، عندما وقع وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة بيانًا خماسيًا منحازًا بالكامل لإسرائيل بعد عملية حماس، بدا المشهد وكأن الدعم الأوروبي لتل أبيب مطلق. لكن الأردن، وكما يوضح الكاتب، لم يقف متفرجًا.
يأخذنا فراعنة إلى لحظة مفصلية: اجتماع الملك مع القادة الأوروبيين في بروكسل، الذي قلب المعادلة. بفضل هذا اللقاء وغيره من التحركات الدبلوماسية، بدأ الموقف الأوروبي يتغير تدريجيًا، ليصل إلى إدانة الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، والمطالبة بضمان وصول المساعدات الإنسانية، ودعم تفويض الأونروا.
هذا التحول لم يكن ضربة حظ، بل كما يصفه فراعنة: “نتيجة تراكم العلاقات الأردنية الأوروبية، والتقاء المصالح في منطقة تكاد تكون برميل بارود.”
3. ازدواجية أوروبا: تحول حقيقي أم مراوغة سياسية؟
يطرح فراعنة تساؤلًا ذكيًا: هل يعكس هذا التحول موقفًا أوروبيًا جديدًا تجاه فلسطين، أم أن أوروبا لا تزال تدور في فلك مصالحها؟ رغم أن التصريحات الأوروبية أصبحت أكثر توازنًا، إلا أن الكاتب يلمح إلى أن السياسة الخارجية الأوروبية لا تزال قائمة على البراغماتية.
لكن ما يجعل فراعنة يقرأ المشهد بتفاؤل نسبي هو أن الضغط الشعبي الأوروبي، وتصاعد الأصوات المناصرة للقضية الفلسطينية، بدأ يؤثر على القرار السياسي في القارة العجوز. فلم يعد من السهل على الحكومات الأوروبية التغاضي عن الجرائم الإسرائيلية دون مساءلة، خاصة بعد المشاهد المروعة التي خرجت من غزة.
4. الأردن بين واشنطن وبروكسل: استقلالية القرار أم توازن المصالح؟
لا يفوت فراعنة الإشارة إلى أن الأردن لم ينجرف يومًا وراء الإملاءات السياسية، سواء من الولايات المتحدة أو أوروبا. فهو يذكّرنا بموقف عمان الحاسم تجاه قرارات ترامب، من رفض الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017، إلى التصدي لـ صفقة القرن في 28 يناير 2020.
وبهذا، يوضح الكاتب أن عمان تسير على خيط رفيع بين الاستفادة من الدعم الأوروبي، دون السماح بتحويله إلى أداة ضغط سياسي. فالأردن، كما يراه فراعنة، ليس دولة تبحث عن المساعدات فقط، بل يسعى إلى شراكة قائمة على “الاستقلالية والندية”، وهو ما أكدته أورسولا فون دير لاين، مفوضة الاتحاد الأوروبي، عندما وصفت المملكة بـ “الشريك الأساسي للاستقرار الإقليمي”.
5. ما الذي يمكن أن يكسبه الأردن من هذه الاتفاقية؟
يأخذنا فراعنة إلى الشق المستقبلي من التحليل، حيث يطرح السؤال الأهم: هل سيستثمر الأردن هذا التحول الأوروبي لصالحه؟
اقتصاديًا: الاتفاقية ستمنح الأردن دفعة قوية، لكن يجب ضمان أن تكون استثمارات مستدامة، وليست مجرد ضخ مالي مؤقت.
سياسيًا: يجب أن تتحول هذه الشراكة إلى أداة ضغط على الاتحاد الأوروبي لدعم موقف أكثر عدالة للقضية الفلسطينية، وليس فقط تعزيز المساعدات الإنسانية.
إقليميًا: يمكن للأردن أن يلعب دور الوسيط بين أوروبا والعالم العربي، خصوصًا مع الدول التي تتبنى موقفًا مشابهًا تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
6. هل نحن أمام لحظة تحول تاريخية؟
في نهاية مقاله، يتركنا حمادة فراعنة أمام معادلة معقدة:
– الأردن يثبت قدرته على التأثير في السياسة الأوروبية، لكنه يحتاج إلى استراتيجية تضمن استمرار هذا الزخم.
-أوروبا قد تكون بدأت في مراجعة موقفها، لكن إلى أي مدى يمكن أن تذهب؟
– العلاقات الأردنية الأوروبية تتجه إلى مستوى غير مسبوق من التعاون، لكن يبقى السؤال: هل سيظل هذا التحالف متزنًا، أم أن أوروبا ستعود إلى حساباتها التقليدية؟
ختامًا: قراءة فراعنة تكشف أفقًا جديدًا
مقال حمادة فراعنة ليس مجرد تحليل لاتفاقية، بل هو إضاءة على مسار جديد في السياسة الأردنية الأوروبية. ببراعة، يأخذنا الكاتب من تفاصيل الاتفاق المالي إلى ديناميكيات السياسة الدولية، ليكشف أن ما يحدث ليس مجرد تعاون اقتصادي، بل إعادة رسم لخريطة التحالفات في المنطقة.
لكن كما يلمّح فراعنة بين السطور، فإن التاريخ علمنا أن المصالح السياسية متغيرة. فهل سيستطيع الأردن الاستفادة من هذه اللحظة لبناء نفوذ طويل الأمد، أم أن أوروبا ستعود إلى مواقفها التقليدية بمجرد تغير الظروف؟ سؤال مفتوح، لكن الأكيد أن عمان تلعب دورًا لم يعد بالإمكان تجاهله.
#أنتهى #