كتبت الدكتورة علياء إبراهيم
هل الترجمة، وبصفة خاصة للأعمال الأدبية، هي مجرد نقل النص من لغة إلى أخرى؟ تساؤل يطرح نفسه بقوة مع سيطرة برامج الذكاء الاصطناعي، التي يظن البعض بأنها قد تلغي دور المترجم.
وإذا كانت الإجابة: نعم، فإن هذا يعني أن المترجم هو مجرد ناقل فقط للنص الذي أبدعه الكاتب، وفي الحقيقة فإن هذا جانب من جوانب عمل المترجم، لكن الترجمة الأدبية هي عملية سردية، تعتمد على فهم المترجم وإحساسه بالنص الأصلي، ثم إعادة خلقه بلغة أخرى.
إن المترجم في ترجمته للنص يقوم ببناء عالَمين: عالَم النص الأصلي كما فهمه، وعالَم النص المُترجم كما يقدمه للقراء. وهذا البناء يمنح المترجم خبرات واسعة في عوالم مختلفة، منها اللغة بكل جوانبها، والبناء الأدبي، وخلق شخوص الرواية، وتماسك الخط الدرامي، وتصاعد الأحداث، وعالم المشاعر الإنسانية بمتناقضاتها، بالإضافة إلى التعرف على الثقافات الأخرى، ما يجعل المترجم بحق غواصاً في بحر الأدب، وهو ما لا يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي.
وإذا كان المترجم لديه موهبة خفية في الكتابة والتأليف، فستكون عملية الترجمة بمثابة دورة تدريبية من أعلى المستويات، ونوعاً من التعلّم الذاتي لكيفية بناء العمل الأدبي وخلق الشخصيات.
من بوابة الترجمة دخلت غادة جاد إلى عالم التأليف، وهي ابنة الإسكندرية، وخريجة قسم الحضارة اليونانية والرومانية، بتخصصها الدقيق في الأدب اليوناني واللاتيني، الذي أسس لديها بنية تحتية قوية تتمثل في الأدب الكلاسيكي، وبعد ترجمتها للعديد من النصوص الأدبية المنتقاة بعناية من وإلى الإنجليزية.. قامت غادة جاد بطرح باكورة إنتاجها الأدبي وهو رواية “زهرة” التي صدرت باللغة الإنجليزية عام 2024 عن دار نشر زحمة كُتاب ، لتكون امتداداً لرحلتها الطويلة مع الكلمات، وتنتقل فيها من إعادة صياغة أفكار الآخرين، إلى تقديم صوتها الخاص، وأفكارها وأسلوبها الأدبي.
وقد اختارت الكاتبة كما يمكن أن يتوقع القارئ من اسم الرواية موضوعاً نسائياً إنسانياً يتجسد كواقع في العديد من المجتمعات، ويعكس قضية اجتماعية شديدة الحساسية؛ قضية المرأة التي تجسّدها بطلة الرواية، التي تتنقل بين الأمل والانكسار، والتي تجسّد تحوّلاً درامياً عميقاً، من الطموح والانفتاح والوسطية والرومانسية، إلى القيود التي تخنق الروح باسم الفهم الخاطئ للدين، فمن يا ترى سيكون الرابح في هذه المباراة الأزلية؟!
امتدت أحداث الرواية منذ كانت بطلة الرواية صبية “زهرة” التي أخذت نصيباً من اسمها؛ تتفتح وتنفتح على الحياة، ولديها أحلام في الدراسة والعمل والزواج، فهي ابنة رجل داعم متفتح، كان هو رمز الرجل في خيالها، إلى “زهرة” الزوجة التي تحت ستار مفاهيم دينية مغلوطة تبنّاها الزوج تم وأد روحها، بعد أن رفع الزوج الذي اختارته شريكاً لحياتها راية الدين لقمع زوجته، فبات يعدّ عليها أنفاسها، لتجد زهرة نفسها رويداً رويداً تعيش حياة تجرّدها من هويتها وذاتها، ومع مرور الوقت بدأت شخصيتها تتلاشى؛ فلم تعد تلك الفتاة الطموحة، بل أصبحت ظلًا لنفسها، بعد أن تحولت حياتها إلى سلسلة من القيود، وباتت تشعر أن أحلامها ضاعت للأبد، ولا تعرف من تكون، لتواجه شعوراً بالعجز وهي ترى أحلامها تُدفن واحداً تلو الآخر، دون مقاومة منها، وعندما يصل القارئ إلى هذه النقطة، سيجد تساؤلات تتسارع وتتصارع في عقله: أين اختفت تلك الفتاة المفعمة بالحياة؟ وهل يمكن أن تجد طريقها مجدداً؟ وهل يمكن أن تجد البطلة الشجاعة لتستعيد حياتها؟ وهل يمكن أن يتغير الزوج ويفهم قيمة الحرية وقيمة الحياة الزوجية، التي هي أسمى العلاقات الإنسانية؟
استطاعت الكاتبة من خلال أحداث الرواية أن تُلامس موضوعاً معقداً، وإن بدا للوهلة الأولى تقليدياً، إلا أن معالجة الكاتبة له جاءت بأسلوب إنساني، وعبر مرحلة زمنية بها تحولات اجتماعية لم تغفلها الكاتبة، ما يجعل القصة مليئة بالحياة والتفاصيل والمشاعر، فيستطيع أي قارئ أن يتفاعل معها، بغض النظر عن خلفيته الثقافية.
#انتهى#