كتبت الدكتورة علياء إبراهيم

أنا من جيل تربّى على أثير المذياع يملأ أركان البيت ليلاً ونهاراً، وعلى صوت أبلة فضيلة تمدّنا بجرعة أمل وقِيَم بصوتها الحنون عبر “غنوة وحدوتة”، ويستيقظ على صوت أم كلثوم “يا صباح الخير يا اللي معانا”، ونداء المذيع بفخر “صوت العرب من القاهرة”، ليترسّخ لديّ منذطفولتي أن “مصر قلب الوطن العربي”، وأنام على “حديث الروح” والقرآن الكريم بأصوات عمالقة التلاوة والترتيل في العالم العربي والاسلامي: الحصري ومحمد رفعت وعبدالباسط.

أمدّ  عنقي لأنظر إلى أعلى هذا الجهاز القابع على رف بني معلّق على الحائط تصدر منه أصوات أتساءل ببراءة من أين تأتي؟ لكن هذا الجهاز كان بالنسبة إلى أبي شيئاً آخر، حيث يجلس باهتمام ليستمع إلى نشرة الأخبار، ويجلسني على رجليه يطالبني بالصمت ليتمكن من التركيز، ويقول لي:اصمتي، وسأشرح لك لاحقاً.

لم أدرك أهمية المذياع بالنسبة إلى أبي كما أدركتهايوم العاشر من رمضان؛ الذي وافق يوم السادس من أكتوبر 73، صوت عميق ثابت يتحدث، وأبي وأمي يستمعان، تظهر عليهما أمارات الدهشة،وربما علامات عدم التصديق.. كنت طفلة لا أفهم مغزى الكلمات، لكنني رأيت ملامح أبي وأمي تتبدّل بصورة سريعة، والصمت يخيّم على أركان البيت.

دعوات أبي وأمي لا تنقطع: الله ينصرهم.. يا رب تكون أخباراً حقيقية.. يااارب.. دعوات الصائم لا تُردّ، هكذا قال لي أبي.

النساء بدأن في التحدث عبر “الشبابيك” عن الأخبار.. لم أفهم فحوى كلامهن، لكن أبي قال لي: جيش مصر يا علياء يحارب.

ادعي يا ابنتي لهم.

ماذا أقول يا أبي؟

قولي: الله ينصرهم.

يا رب انصرهم، يا رب انصرهم.. هكذا كنت أردد خلف أبي وأنا ابنة السنوات السبع.

تحولت طقوس البيت الرمضانية إلى طقوس أخرى فجيشنا يحارب وينتصر ونحن في انتظار نشرات الأخبار صغارا كنا أم كبارا  نلتف حول المذياع لنصفق ونقفز فرحا بانتصار جيشنا في حرب أكتوبر أو العاشر من رمضان.

أنا لست من جيل أبي الذي عانى آلام الهزيمة، إنني من جيل لم يدرك هل كانت “النكسة” زائفة أم حقيقية، فقد كنت أحبو آنذاك، لكنني مع اشتدادعودي وتعرّفي أكثر إلى نصر أكتوبر، أدركت أنني أحببت صاحب الصوت الرخيم الواثق المحفز،صوت الرئيس الراحل أنور السادات، وهو يبث خبر بداية الحرب التي فقد الناس الأمل في نشوبها،فضلاً عن الانتصار فيها.

ولذلك لم أفهم أسباب علامات عدم التصديق التي ظهرت على ملامح وجهه هو وأمي وهما يستمعان إلى البيان الأول لقواتنا المسلحة في العاشر من رمضان عام 1973، فقد جرّبا من قبل الاستماع إلى أنباء زائفة عن انتصارات وهمية، ثم فوجئابهزيمة هزّت كيانهما وكيان أبناء مصر الأوفياء كلهم، لكن خفف من وطأة الحدث الجلل أنه سرعان ما تمالك الإنسان المصري الحقيقي ذو المعدن الأصيل نفسه، وبدأت تتوالى أخبار انتصارات حرب الاستنزاف، وتبث الأمل في النفوس.

كنت أكبر وأرى الفرحة كل عام مرتين في السنة:مرة يوم العاشر من رمضان، وأخرى في السادس من أكتوبر، وكأن الله سبحانه قدّر لمصر أن يرفع ذكر هذا النصر بشهر فيه ليلة خير من ألف شهر،ويحتفل المسلمون فيه بذكرى غزوة بدر.

كلما كبرت تعود لي ذكريات تلك الأيام، وحكايات أبي يخبرني كيف اختلطت دماء القبطي بالمسلم في هذه الحرب بتراب مصر، وتداخلت أصوات الأذان في المساجد بالأجراس في الكنائس، لتعلن للجميع، شاء من شاء وأبى من أبى، أن مصر لُحمة واحدة منذ أن وحّدها مينا موحد القطرين،ويعود أبي ليقول لي إن سرداقات العزاء في شهداء حرب أكتوبر المجيدة كانت احتفالات بشهداء هم أحياء عند ربهم يرزقون، وإن جنود مصر الأوفياء خير أجناد الأرض.. جيش مصر يا ابنتي مصري من الشعب وللشعب، وأقسم أن يحمي الشعب والأرض والعرض.

كبرت ولم أنسَ أن أبي كان يقول لي: إننا بعد استشهاد أبنائنا في 67 لم نتلقَ العزاء إلا بعد الثأر لأبناء الشعب، الذي مرّ عليه أعداء ظنوا أنهم احتلوا مصر للأبد.. جيش مصر أبيٌ صبورٌ لا يتنازل عن أرضه منذ الهكسوس، مروراً بالبطالمة والرومان والإنجليز والفرنسيين.

كانت أمي تترحم على شهداء في الأسرة والجيران، ففي كل بيت شهيد، أو جندي سبقهعضو من أعضائه إلى الجنة وهو يدافع عن تراب هذا الوطن، وكان هناك أرامل وأيتام وأمهات ثكلى قدموا ذويهم عن طيب خاطر لنرفع رؤوسنا عالياًعلى مرّ الزمان، ويكونوا هم تيجان اللؤلؤ التي نزيّن بها رؤوسنا أجيالاً وراء أجيال.

كبرت وعلمت وتعلّمت أن حرب أكتوبر ليست نصراًعادياً لشعب أراد أن يمحو آثار الهزيمة، بل هي حرب اغتالت ادعاءات العدو بأنه صاحب الجيش الذي لا يُقهر، وأطاحت بأسطورة خط بارليف الذي لا يمكن اختراقه، والطيران الإسرائيلي الذي لا يُهزم.

كبرت ولم أنسَ تساؤلات أبي التي طرحها عليّ عبر سنوات وسنوات، وكانت بطلة تساؤلاته أدواتاستفهام وتعجّب وإقرار بحقائق أصبحت يقيناًفي عقلي: كيف لا يؤيد الله بنصره خير أجناد الأرض.. وكيف لا يبارك في أرض تجلّى الله فيها سبحانه على جبل سيناء ونشأ فيها كليم اللهموسى.. كيف لا يؤيد الله بنصره شعباً وأرضاًاستقبلت العائلة المقدسة في رحلتها هرباً من بطش الرومان.. وكيف لا يبارك في جنود شعب وأرض احتمى بها آل بيت الرسول وخاتم النبيينصلى الله عليه وسلم.. كيف لا يثبّت الله الذين آمنوا وقد استهلوا الحرب بـ”باسم الله.. الله أكبر”؟!..لتكون مصر وجيشها وشعبها أيقونة في الوطن العربي، وقدوة يحتذى بها لتدعم مبدأ أنه لا يمكن أن يدوم احتلال لشعب يؤمن بعدالة قضيته مهما كانت وحشية العدو.

مهما طال أمد الظلم، النصر قادم، وسيظل نصر أكتوبر يبث الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني الأبيّ الذي لا يزال يذهل العالم بصلابته، ولا تزال المرأة الفلسطينية تصبر وكأن بداخل هذه الأرض الطيبة ألف ألف مثل الخنساء، ولا يزال الطفل الفلسطيني ينمو ويشبّ على أن الأرض أرضه،يفقد أسرته لكنه يأبى أن يفرّط في ذرة تراب منها، فالأرض أرضه، وشجرة زيتونه قد تميل أغصانها وتتساقط أوراقها إلا أن جذورها ممتدة منذ آلاف السنين.

أستقبل العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر هذا العام وقد خلا البيت من أبي وأمي، رحمهما الله، وأنظر إلى الرفّ المعلّق على الحائط وقد أصبح المذياع تحفة من زمن ولّى، لكن يظل صوت أنور السادات في بيان النصر يتردد في أعماقي،ويبث الأمل في نفسي، فتعود كلمات أبي وأمي وذكريات نصر لابد أن تدرك قيمته أجيال لم تعشه،فأنظر إلى سماء بيتنا وصوت الطائرات تجوب الأفق احتفالاً بنصر عظيم لن تتبدد ذكراه أبداًفأقول: عشت يا جيش بلادي.. وأجدني وأنا كاتبة لقصص الأطفال تراودني أمنية أن أكتب قصة عن هذا النصر العظيم لأجيال لم تعشه، ولم تدرك عمق حب الشعب لجيش عظيم هو من الشعب ونصير للشعب.

#انتهى #

By Sahar Hamza

أديبة وكاتبة قصص أطفال ومؤلفة كتب متنوعة بحثية ودراسية ذات موضوعات اجتماعية ومؤلفة سلسلة روايات حكايات امرأة صدر للكاتبة سحر حمزة خمسة دواوين شعر منها رسائل للقمر وصباح الخير يا وطن وقصائد للنساء فقط أوتار قلب وصباح الخير يا غزة وفازت روايتها سيدة الليلك كأفضل رواية صدرت عام 2009 حول المرأة ولديها كتب قيد الإصدار منها الرجل العجيب ودفن حيا وعلى أعتاب النهر الخالد