إنسان الإمارات مارس الإبداع والابتكار منذ القدم استجابة لظروف الحياة وتحدياتها

من المحاضرة ايام الشارقة التراثية الدورة

أكدت جلسة ثقافية عقدها المقهى الثقافي في أيام الشارقة التراثية أن الإبداع والابتكار لدى أهل الإمارات ليس وليد اللحظة ولا ظاهرة جديدة بل تمتد جذورهما إلى عهود قديمة، وأن هذه التجربة الإبداعية تواصلت مع قيام دولة الاتحاد من خلال عمل مؤسسي ومجتمعي مستدام.

جاءت الجلسة تحت عنوان (الإبداع واستدامة التراث) شارك فيها كل من الباحث والمستشار الاقتصادي الدكتور نجيب الشامسي، والإعلامي والباحث في التراث والثقافة الشعبية الإماراتية عبدالله عبدالرحمن، والشاعرة الإماراتية شيخة المطيري، وأدارها محمد حمدان من معهد الشارقة للتراث.

تطوير التراث ملازم للإبداع والابتكار

استهل الدكتور نجيب الشامسي محاور الجلسة حيث أكد على أهمية الإبداع كعنصر رئيسي وموضوع محوري يرتبط بصميم مفهوم التراث وممارساته وتجلياته المختلفة، وأوضح أن كلاً من الإبداع والابتكار يمثلان الأرضية التي تستند عليها خطط ومعالم تطوير التراث بجانبيه المادي وغير المادي.

الإبداع ممارسة إنسانية عالمية

وأشار إلى ظهور وانتشار الكثير من الصناعات الإبداعية المرتبطة بالفعل البشري ونقل الأفكار إلى ممارسات عملية كالحرف التقليدية التي اشتهرت بها دولة الإمارات، فضلاً عن تحويل الأفكار والموروث الشعبي إلى منتجات ثقافية مبدعة مثل الكتب والأشعار والروايات، لافتًا إلى وجود الكثير من السمات المشتركة ذات العلاقة بالتراث الشعبي فيما بين الدول العربية، وفيما بينها وبين دول العالم، فعلى سبيل المثال نجد أن الكثير من الألعاب الشعبية التي مارسها الأجداد والآباء ويمارسها الجيل الحالي، لها تشابه كبير من حيث السمات والمعالم والأساليب مع مثيلاتها في بقاع عديدة في العالم كشعوب الإسكيمو وأمريكا اللاتينية، مما يدل على أن الإنسان في المجتمع الإماراتي يتميز بعقليتيه الابتكارية والإبداعية، وتثريها حاجاته اليومية،  وأن جذور نهضة الإمارات وتطورها ضاربة في القدم ولا ترتبط بظهور النفط، وإنما ارتبطت بالإنسان ونشاطه وحراكه الثري واستجابته لمتطلبات العيش في البيئات المحلية المختلفة كل بحسب عناصره وخصوصيته، وتتمثل هذه البيئات بحسب رأي الشامسي في خمس بيئات هي البيئة الجبلية وبيئة السهول والبيئة الصحراوية أو البدوية والبيئة الزراعية أو الريفية وأخيرًا البيئة الساحلية أو البحرية.

نحو إبداع محلي مؤثر ومنفتح

ونوه الشامسي إلى ضرورة وضع وتنظيم الأطر العامة للعلاقة الوثيقة بين الإبداع والتراث، وتكثيف الجهود لتحقيق الاستدامة الشاملة في التنمية بكل عناصرها ومقوماتها وأنواعها وعلى رأسها التنمية الثقافية، وتقديم منتجات محلية مبدعة تنقل صورة الإماراتي للخارج وتؤثر عليه بالإيجاب، وترسخ مفاهيم وقيم الاعتزاز بعاداتنا وقيمنا الأصيلة.

ولفت إلى أن الانفتاح على الآخرين لا يعني بالضرورة التخلي عن القيم والمبادئ الثقافية، ضاربًا المثل بالنهضة الاقتصادية والتجارية التي تشهدها الصين، وأصبحت دولة ذات تأثير واسع في العالم، دون أن تفرط بثقافتها وموروثها الشعبي.

صيد اللؤلؤ مثال للإبداع الإداري والمؤسسي

واختتم الشامسي حديثه بالإشارة إلى نموذج مهنة الغوص لصيد اللؤلؤ واستخراجه والمتاجرة به والفريق القائم على هذه المهنة التقليدية، حيث اعتبرها مثالاً ناصعًا للوظيفة المجتمعية والعمل المؤسسي والإداري المتكامل الذي يتسم بتقسيم المهام والأدوار والمسؤولياتانطلاقًا من مستوى القيادة وهو النوخذة مروراً بالعاملين على السفينة، وانتهاءًبصناع السفن وتجار اللؤلؤ والممولين وباقي أفراد المجتمع الذي يقتني اللؤلؤ ويشتريه.

كيف نصل إلى ميراث مستدام؟

وجاءت ورقة الأستاذ عبدالله عبدالرحمن تحت عنوان (نحو ميراث مستدام)، وبالتزامن مع عام الاستدامة الذي رفعته قيادتنا الرشيدة شعارًا ناظمًا لمبادرات الدولة وإماراتها المختلفة في 2023، ومن ضمنها أيام الشارقة التراثية، في سعي منها نحو خدمة الأرض والإنسان كغاية من غايات الوجود الإنساني.

وطرح المحاضر خلال حديثه عددًا من التساؤلات المهمة حول تحديد مفهوم الاستدامة في التراث الإماراتي، وكيفية المحافظة عليه حيويته وديمومته رغم تعاقب الأجيال وتبدل الوسائل والغايات والأحوال، داعيًا إلى ضرورة تجريد التراث من المظاهر والظواهر والصور النمطية والأنماط المعهودة المرتبطة بالزمان والظرفيات الأخرى، في سبيل الوصول إلى البناء المعرفي المنشود من هذا التراث.

إبداع من رحم المعاناة

واستعرض عبدالله عبدالرحمن جانبًا من معاناة الإنسان قديمًا على أرض الإمارات وباقي مناطق الخليج العربي إزاء قسوة عوامل البيئة والمناخ وشح الموارد الطبيعية والاقتصادية، واضطرارهم للخوض في غمار البحر بحثًا عن كنوزه وخيراته، وبما يسد حاجاتهم المعيشية، فضلاً عن سعيهم لاكتساب المعرفة الحية الشغوفة بتفاصيل الأماكن وسكانها من الكائنات الأخرى، مشيراً إلى أن هذه الظروف خلقت ذاتًا إماراتية منفردة هي حصيلة هذا البناء المعرفي المتراكم.

وذكر المحاضِر أن التراث الحقيقي ينبع من البناء المعرفي الذي ينطلق من قيمنا السامية وفطرنا السليمة التي تربط الإنسان بالمكان وتثري العلاقة بينهما، موضحًا بأن استدامة هذا البناء المعرفي التراكمي الموروث عبر الأجيال تتحقق بالإبداع المتجدد بتجدد الوسائل وتنوعها، وبالاستلهام من المعاني والحكم الموروثة على مدى الأزمان، ونقلها إلى نفس إبداعي طموح ومدعوم بجهد مؤسسي ووطني، وإظهارها عبر أعمال أدبية وفنية وبحثية وحرفية تحفظ الموروث وتواكب الحاضر وتستشرف المستقبل.

جهود إبداعية نوعية لترميم المخطوطات

من جهتها، ركزت ورقة الشاعرة شيخة المطيري على التجربة الإبداعية لمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في ترميم المخطوطات القديمة والمحافظة عليها وإتاحتها للمهتمين والباحثين، حيث أوضحت أن المركز يضم حالياً أكثر من 800 ألف مخطوطة منها 23 ألف مخطوطة أصلية، وتطرقت إلى جهود المركز في تحليل المخطوطات والوقوف على حالتها والتأكد من مصدرها.

وذكرت أن الحضارات السابقة أطرت العلم من خلال المادة المكتوبة بواسطة الأيادي البشرية التي أولتها العناية والاهتمام، وأن التاريخ يضم إشارات إلى وجود محاولات وتجارب ترميم بدائية للكتابات المخطوطة منذ القدم، مما ساعد في وصول وحفظ بعض أصول هذه المخطوطات.

وعددت المحاضِرة جانبًا من جهود المركز في استدامة هذا الإرث الورقي، من خلال البحث في النباتات الموجودة في الإمارات ومحاولة استخراج الألياف الطبيعية منها وصبغها بألوان طبيعية تتوافق مع ألوان ورق المخطوط، وصولاً لإنتاج عجينة تساعد في ترميم المخطوط، بالإضافة إلى استخدام المركز لطرق وموارد جديدة لحماية المخطوطات من القوارض والحشرات الصغيرة وظروف الرطوبة وتأثيرات الحرارة ونحوها، حيث بادر المركز إلى استخدام سعف النخيل في صناعة الورق، وحصوله على براءة اختراع مسجلة، فضلاً عن استخدام جهاز حراري جديد مخصص لتعقيم ورق المخطوط، وجهاز أو حاوية غسل الصحون واستخدامها بطريقة فنية مصممة للتعامل مع ورق المخطوطات، وجهاز البث الحراري الطارد للحشرات ذات الأحجام المتناهية الصغر، لافتة إلى أن المركز أنتج 5 أجهزة في مجالات الترميم والتعقيم وجهازين في مجالات رقمنة المخطوطات، مختتمة ورقتها بالحديث عن الورش والدورات التدريبية التي يقدمها المركز للمهتمين في هذا الجانب.

في محاضرة ضمن فعاليات أيام الشارقة التراثية

حرفة التلي.. موروث إبداعي يكسو الثوب المحلي بألوان وتصميم جميلة

من ايام الشارقة التراثية التلي

ضمن فعاليات مركز التراث العربي التابع لمعهد الشارقة للتراث، استضافت أيام الشارقة التراثية في دورتها العشرين، محاضرة للباحث التراثي سالم عبيد هلال، من إدارة البرامج الثقافية والتراثية في هيئة دبي للثقافة والفنون، للحديث حول حرفة التلي.

في بداية المحاضرة، أكد سالم هلال أن حرفة التلي تشكل منظومة متكاملة في المجال الحرفي الذي مارسته النساء منذ القدم على أرض الإمارات.

واستهل حديثه بالإشادة بنجاح هيئة الثقافة والفنون في دبي وبالتعاون مع عدد من الجهات واللجان الاتحادية والمحلية في تسجيل حرفة التلي في ديسمبر الماضي على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي خلال الاجتماع الـ17 للجنة الدولية الحكومية للدول الأطراف في اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، التي عقدت في مدينة الرباط المغربية، معتبرًا ذلك إنجازًا مهمًا يضاف إلى سجلات ورصيد نجاحات دولة الإمارات في المحافظة على الحرف التراثية والعناصر الثقافية والعمل على استدامتها وتناقلها عبر الأجيال، وبما يسهم في تعزيز الهوية الوطنية للأبناء وربطهم بها.

واستعرض المحاضر مهارات التطريز التقليدية المرتبطة بحرفة التليفي الإمارات، مشيرًا إلى عدد النساء اللواتي يمارسن هذه الحرفة في الدولة يتجاوز 4 آلاف امرأة من مختلف شرائح المجتمع المحلي، ويمارسن هذه الحرفة سواء داخل البيوت أو خارجها، لافتاً إلى أن هذه الحرفة تعتمد على عملية النسج اليدوي التقليدي، تميزها الألوان الزاهية والتصاميم الجميلة المستلهمة من عناصر البيئة المحلية، ويتم استخدامها في تزيين ملابس النساء والثياب والكنادير للاستخدام اليومي أو في الملابس المخصصة للمناسبات المميزة وحفلات الأعراس والأعياد وغيرها.

وأوضح أن التلي يتمثل في شريط مطرز منسوج من خيوط قطنية ممزوجة مع الشرائط الذهبية أو الفضية التي كانت تستورد من الهند وباكستان، ولاحقًا تم استخدام خيوط النايلون الاصطناعية بلونها الفضي بدلاً منها دون أن تلغي استخدام النوع الفضي الأصلي من قبل البعض، مضيفاً بأنه يستخدم إلى جانب هذه الشرائط خيوط من اللون الأسود والأخضر والأحمر والأبيض.

ولفت إلى وجود أسماء مختلفة لتصاميم التلي بحسب طريقة إنتاجه، فمنها طريقة “ساير ياي” (الذهاب والإياب)، وطريقة “بوخوصتين” أو “بوفتلتين”، وطريقة”بوخوصة” أو “بوفتلة”، وطرق أخرى.

واختتم المحاضر بالحديث عن تطور أشكال وأنواع التلي ومزجها مع الزري مع تطور وتنوع أشكال الحياة الاجتماعية وأنماطها، وهو ما توجب معه السعي لتطوير هذه الحرفة النسوية بصورة ابتكاريه متجددة تواكب العصر وتستشرف المستقبل، وبالاستفادة من المهرجانات والفعاليات التراثية التي تربط الأجيال بتراثها القديم وعاداتهم وتقاليدهم وكذلك دعم المناهج المدرسية التي ترسخ مفاهيم السنع لدى النشء واهتمامهم بالموروث، ومن ذلك أيام الشارقة التراثية، بالإضافة إلى مركز تراث للحرف اليدوية التقليدية، الذراع التعليمية لمتحف الشندغة، أكبر متحف تراثي بدبي، والذي تم افتتاحه رسميًا قبل أيام.

ضمن سلسلة إصدارات معهد الشارقة للتراث

عبد الله عبد الرحمن يوقع الرشفة الثالثة من كتابه (مع ذاكرة البحر.. من الأعماق إلى الآفاق)

من حفل توقيع الكتاب ايام الشارقة التراثية

ضمن سلسلة الإصدارات الجديدة لمعهد الشارقة للتراث، خلال أيام الشارقة التراثية في دورتها العشرين، شهد المقهى الثقافي مساء أمس الأربعاء إطلاق كتاب (الرشفة الثالثة من سلسلة فنجان قهوة- مع ذاكرة البحر.. من الأعماق إلى الآفاق) للباحث الإماراتي القدير عبد الله عبد الرحمن.

تضم دفتا الكتاب 593 صفحة من الحجم الكبير وتم تذييله بملحق رائع للصور، ويوثق مضمون حوارات ولقاءات الكاتب مع مجموعة من فرسان الرعيل الأول من أبناء الإمارات الذين اتخذوا البحر سبيلاً للعيش ومسارًا للحياة ومولدًا للفرص، ومدرجاً للارتقاء.

وفي معرض تعليقه خلال مراسم توقيع الكتاب، أوضح الباحث عبد الله عبد الرحمن إن الكتاب يمثل نتاج سعي شغوف وبذل لما مكننا الله من وسع في توثيق واستقصاء بعض ما خبره إنسان الإمارات وعاشه من تجارب أصبحت اليوم مفاتيح لمعرفة ماهية مكنون هويتنا وصياغة نموذج نوعي مبني على أساس راسخ من الحياة وتقدير الحياة.

وأضاف أن إنسان الإمارات خاض غمار البحر، باعتماده الأزرق المتوحش المجهول، والمليء بمغريات الوعود بكنوز القاع ومغامرات السفر إلى ما وراءه من فرص تعاف وتبادل، فتجشموا الصعاب، وعانوا الأمرين، وصارعوا الأمواج والأهوال، ليحصلوا على النزر اليسير مما يقيم أودهم ويكفل لأسرهم العيش الكريم، وبرغم معرفتهم بتلك المهالك والصعاب، اشتاقوا إلى البحر وعشقوه بكل ما فيها من حكايات ناطقة وصامتة، وتغنوا به في أشعارهم، وعلى ظهره بنهمات حنينهم.

وأشار إلى أن الكتاب يضم سطورًا من ملاحم البحر في دفاتر الذاكرة المحلية تقترب من الأسطورية، وتلامس أعلى ما في الطاقة البشرية من صبر وصمود وقدرة على التعايش المتسامي بتوكله على ربه والموقن به وبأقداره.

وقارن الكاتب بين الحال في الماضي، والحاضر بالنهضة الحديثة في الإمارات، داعيًا إلى أهمية المحافظة على تلك الحكايات التي ارتبطت بالبحر وعبابه، ومغامراته المكسوة بالتحديات.

جمهور متابع لايام الشارقة التراثية