المطربة اللبنانية جوليا بطرس – غناء فذ وذاكرة انتقائية
خاص ،بيروت / الكاتب: كريم شفيق
فنانة لبنانية -والدها لبناني يعتنق مبادئ الحزب القومي السوري ووالدتها من أصل فلسطيني وأرميني لا تفارقها مشاهد النكبة- كانت أغنية “أحبائي” -التي صدرت في عام 2006 بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل وهو الاسم ذاته الذي أطلقته على مشروعها الغنائي، وحفلاتها، والذي زارت به عدداً من العواصم العربية بينما تبرعت بريعه إلى ضحايا الحرب- بمثابة اللحظة القصوى في أغنياتها السياسية.
فنانة لبنانية صوت غنائي فذ ملتزم وحالة استثنائية وقع تحت تأثيرها كثيرون، لكن هل حاصرتها رقعة السياسة واختزلت فنها بل وأغرقتها في تصنيف سياسي طائفي حتى أصبح رصيدها مرهوناً لدى فئة محددة وفصيل سياسي بعينه فبهت حضورها وتلاشت أمامه؟ تعليق كريم شفيق لموقع قنطرة.الكاتبة ،
مثَّلت الفنانة اللبنانية جوليا بطرس في حوار سياسي غير مخطط له ،ساهمت في تأطيرها الفني الذي يظل يلازمها بينما تسعى هي ذاتها إلى الاستثمار فيها. هذه الفترة المتخمة بالصراع والحرب التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان على خلفية إنهاء الوجود الفلسطيني وكذا منظمة التحرير الفلسطينية، سوف تحتاج إلى ولادات متكررة قسرية. هوية الفنان المقاوم المصنوعة هي ما بحثت عن إعادة إنتاجه واستهلاكه.
تعود بدايات الفنانة اللبنانية مع الأغنية السياسية وخط “المقاومة” الذي طوعت فنها لصالحه، بينما التزمت بمبادئه وتبنت انحيازاته، إلى العام 1985، من خلال أغنيتها الشهيرة: “غابت شمس الحق”، حين غنت للجنوب اللبناني الذي وقع وقتها تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، بينما لم يتجاوز عمرها الــ17 ربيعاً.
وعلى خلفية شن الجيش الإسرائيلي هجوماً في منطقة الزراية بالجنوب اللبناني غنت من كلمات الشاعر اللبناني نبيل أب عبدو للمرة الأولى بالعربية أغنيتها الأخيرة والشهيرة التي منحتها شهرة فائقة وبطاقة مرور ذهبية، مازالت تحتفظ بها رغم تآكل أطرافها وفقدان إغراءاتها وتلاشي زخمها، حيث سبقهتا أغنية وألبوم آخرين بين عامي 1980 و1982 بالفرنسية وقد سجلتهما في استديو “إلياس رحباني” والأخير ساهم بالتلحين والتأليف في ألبومها الأول بالفرنسية:
غضب وحماس وعدم مهادنة
ومثلما بدا صوتها قوياً يرتج في صمود وجسارة بينما تؤدي كلمات أغنيتها العربية الأولى وتتنقل بين ألحانها التي تراوحت بين الصخب والغضب والحماس وعدم المهادنة -وهي تصدح بعبارات مؤثرة مثل: “صدر الشرق انشق” و” كلهن يا جنوب باعوك الكلام” و”العدل مصلوب عم ينزف السلام”- كانت تقطع بنفس الدرجة مع تاريخها الفني الذي بدأته مع الرحباني، وتجهض تطوره، لتحمل الأغنية كسلاح أيدولوجي لحساب “المقاومة”.
الموسيقى عمود فقري للإبداع
“حين تنفس ثوار الأرض الحرية نأت بنفسها عنهم الفنانة جوليا بطرس”
بين عامي 2015 و2019، تصاعدت موجة من الاحتجاجات في بيروت ضد الطبقة السياسية اللبنانية على خلفية تفاقم أزمة النفايات التي تراكمت في زوايا المدينة وشوارعها وعبر الطرقات، والتي ترمز إلى انسداد في الأفق السياسي، وتحجب خلفها فائضاً هائلاً من الفساد والفشل اللذين عبر عنهما المحتجون في هتافهم: “طلعت ريحتكم”.
وعليه، كانت الأرض تهتز تحت أقدام الفنانة اللبنانية، التي ظلت تغني إلى “ثوار الأرض”، وتحرضهم بأن “ثوروا عالطغيان” و”ثوروا عالحرمان”، بينما ظلت في أشهر أغانيها تهتف: “وين الملايين؟!”.
بيد أن “ثوار الأرض” حين استجابوا لها وتدفقوا في غضب وفاضت بهم الساحات والميادين ومن بينهم المحرومون والمنبوذون وشتى الفئات المهمشة والمقهورة -لجهة استرداد حقوقهم المنهوبة وفضح التخريب والاستغلال السياسي والاجتماعي- نأت بنفسها عنهم بينما رافق المحتجين أصواتٌ غنائية أخرى، ثم تحولت أغنيات صاحبة: “أنا بتنفس حرية” إلى عبارات ساخرة، تتسع لها صور ورسومات الغرافيتي على الحوائط والجدران، بهدف فضح تناقضاتها الفجة وانتهازيتها.
إذ لم تكن الموجة الاحتجاجية الأخيرة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019 سوى حالة غضب قصوى على وضع لبنان العام الذي يعيشه -منذ تاريخ الحرب الأهلية- ونجم عنه طيلة عقود فقدانه للسيادة وخضوعه للاقطاع السياسي والطائفي ووفاة شبابه في حروب بالوكالة -كما هو الحال في سوريا- بالإضافة إلى اقتصاده الذي لامس حواف الإفلاس، ناهيك عن تعالي نبرة الطائفية والعنصرية، بين أوساط عديدة.
تعود بدايات الفنانة اللبنانية جوليا بطرس مع الأغنية السياسية وخط “المقاومة” الذي طوعت فنها لصالحه، بينما التزمت بمبادئه وتبنت انحيازاته إلى العام 1985 من خلال أغنيتها الشهيرة: “غابت شمس الحق”، حين غنت للجنوب اللبناني الذي وقع وقتها تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، بينما لم يتجاوز عمرها الــ17 ربيعاً. بين عامي 2015 و2019 تصاعدت موجة من الاحتجاجات في بيروت ضد الطبقة السياسية اللبنانية والفساد، غير أن “ثوار الأرض” حين تدفقوا في غضب وفاضت بهم الساحات والميادين ومن بينهم المحرومون والمنبوذون وشتى الفئات المهمشة والمقهورة -لجهة استرداد حقوقهم المنهوبة وفضح التخريب والاستغلال السياسي والاجتماعي- نأت بنفسها عنهم بينما رافق المحتجين أصواتٌ غنائية أخرى،
تباينات وتناقضات؟
لكن الفنانة -من أصول أرمينية والتي تنتمي إلى أسرة يعتنق والدها اللبناني مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي بينما الأم الفلسطينية لا تفارقها مشاهد النكبة والتهجير والشتات الفلسطيني- تكاد تسقط عليها هذه الحالة المختلطة كغيمة ثقيلة، تجعلها داخل خريطة نفسية معقدة ومشوشة، لا سيما أنها تسكن بيت الوزير السابق (إلياس بو صعب) الذي ينتمي للتيار الوطني الحر، وينتسب له رئيس الجمهورية -ميشيل عون- الذي طاولته انتقادات سياسية عديدة لدرجة المطالبة بعزله وحكومته.
والرئيس عون وصفته صاحبة “نحن الثورة والغضب” بأنه “بَيْ (أب) الكل” -باللهجة اللبنانية المميزة في محاولة لالتماس تعبير يجعله ممثلاً لكل اللبنانيين على تنوع طوائفهم ومرجعياتهم السياسية- كما سبق أن غردت عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر = إكس” بصورة تجمعهما سويةً، لكن لم يخدش حسها “المقاوم” وحدسها “الممانع” أنه الجنزال ذاته مهندس مجزرة تل الزعتر -التي قضى فيها نحو ثلاثة آلاف فلسطيني بالمخيمات حتفهم بعد حصار دامٍ استمر 52 يوماً- وهو نفسه الجنرال العسكري الذي وقف يصافح قائد الجيش الإسرائيلي بعد نجاح اجتياح العاصمة اللبنانية بيروت في العام 1982.
الفنانة الحاصلة على وسام “الأرز الوطني” -في العام 2007 من الرئيس اللبناني إميل لحود- هي صوت غنائي فذ وحالة استثنائية وقع تحت تأثيرها كثيرون، لكن رقعة السياسة حاصرتها واختزلت فنها. ورغم محاولات متواضعة للحجل بين الفن والسياسة ووضع أغنيات عاطفية -بين الحين والآخر- إلا أنها كانت قد غرقت في التصنيف السياسي الطائفي، حتى أصبح رصيدها مرهوناً لدى فئة محددة، وفصيل سياسي بعينه، فبهت حضورها وتلاشت أمامه.
وفي تموز/ يوليو عام 2018 على مسرح ميدان سباق السيارات التاريخي في محيط قلعة مدينة صور الأثرية بجنوب لبنان استهلت الفنانة اللبنانية حفلتها بعبارات قصيرة وهي “بحر صور غير.. وهواء صور غير.. وهواء الجنوب كله غير”. فيما كانت هذه الكلمات أبعد من مجرد كونها مزحة هادئة، تصنع بها خيوط حريرية مع جمهورها الذي تدفق بالآلاف لحضور حفلتها الأولى بالجنوب اللبناني، بعد انقطاع عنه دام لأكثر من عقدين، وقد تستدعي شحنة نفسية هائلة، وطاقة معنوية، لمضاعفة جرعتها الغنائية، وتأثيراتها عليهم.
“ترويض فاعلية الآخرين والمعارضين المحتملين والمتخيلين”
وعن عمد وبمهارة شديدتين ظفرت بالحالة المعنوية الصاخبة بكلمات مقتضبة لها طبيعتها السحرية التي تجيد صناعتها، وجذبتهم بنعومة وخفة داخلها بهدف تحريك ذائقتهم، وخدش حساسية فنية معينة تخص حالتها الغنائية المميزة، ليصبح لها أثرها المدوي والتحريضي. وقد تزامن الحفل الذي حضره قرابة 13 ألف شخص مع حدثين مفتاحيين يضيء كل منهما على الطبقة المستترة والخفية التي يصعد من خلالها صوت بطرس ويكتسب داخل مساحاتها الآمنة شرعيته الفنية وتداول أغانيها. أولهما: ذكرى حرب تموز / يوليو عام 2006 وقد كانت بمثابة الفصل الثاني من الحرب والمواجهة العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، وثانيهما: نجاح الانتخابات التشريعية في لبنان قبل الحفل بشهرين وفوز الثنائي الشيعي “حزب الله وحركة أمل” في مقابل تراجع تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري بعد تعطيل الانتخابات لبضع سنوات بواسطة حزب الله لفرض أجندته السياسية والإقليمية وأبرزها دوره البراغماتي في سوريا.
أي نوع من الموسيقى أثّر في الثورتين التونسية والمصرية أوائل عام 2011؟ وكيف كان رد فعل الموسيقيين والمغنين في هذين البلدين على التحولات السياسية؟ على هذه الأسئلة يجيب الألبوم الجديد الذي أصدرته شركة “ورلد نيتوورك للموسيقى العالمية. هذا الألبوم يقدم موسيقى “الربيع العربي”. مارتينا صابرا استمعت إليه وتقدم تحليها له في هذا المقال.
“صوت غنائي بأدوار وظيفية محددة”؟
هذه المسافة الزمنية لم تكشف سوى عن قوة وإصرار لحبس الأغنية التي قدمتها جوليا بطرس في حيز المضامين السياسية والأيدولوجية المباشرة. إذ يؤدي صوتها الغنائي أدواراً وظيفية محددة يفقد على أساسه صلاحيته وقيمه الجمالية، بعدما أمسى هذا الصوت يحيلك لجملة من المشاعر المستهلكة والأفكار التقليدية والانطباعات المباشرة، كما يستدعي معه جملة من الاعتبارات السياسية التي تهيمن على شخصيتها الفنية وتصادرها في ملمح واحد، بصورة متكررة، لطالما يجري إعادة توظيفها في أشكال تبدو باهتة وضعيفة، يترتب عليها وجود محتوى رث يتسم بالرداءة أحياناً.
فيما تحول صوتها وخطابها الفني إلى وسائط إكراه تمارس عبرها النفي والاستلاب لخصومها، وترويض فاعلية الآخرين والمعارضين المحتملين والمتخيلين، بهدف إحالتهم للتقاعد وضمان طواعيتهم وخضوعهم، بالإضافة إلى نفيهم من المجال العالم. وبالتالي نبذ أي مقاومة ومنع نقل عدوى الثورة غير تلك التي تمر عبر قنواتها وتبشر بها.
عرجت بطرس في حفلها -كما في مرات أخرى سابقة- على ذكرى “تموز” والحرب بصفة عامة قبل أن تستكمل أغنياتها. فتقول: “تموز شهر الانتصار. دوخ العالم. صحيح أنه ذكرى لحرب، والحروب مأساة يذهب ضحيتها شهداء وضحايا، لكن تموزنا هو تموز الانتصار. انتصارنا وانتصار لبنان، كل لبنان، شاء من شاء وأبى من أبى. تحية مني إلى كل الأبطال الذي رووا أرض الجنوب ولبنان بدمائهم”.
“مدينة تتجاوز شعارات “المقاومة” و”الممانعة” التي أضحت من وسائل حزب الله القمعية”
فهذه الذاكرة الانتقائية هي ما تسعى الفنانة اللبنانية إلى إحيائها في الحفل الذي حضره الآلاف من جمهورها فضلاً عن رموز سياسية وفنية عديدة ومنهم رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري وزوج الفنانة وزير الدفاع إيلياس بو صعب، حيث إن المدينة الساحلية -الواقعة على الضفة الشرقية للمتوسط بين مدينتي صيدا اللبنانية وعكا في فلسطين- تحفل بتاريخ حضاري متنوع ومهم على مستوى البشر والعمران غير الذي تريد حصره في داخلها.
ويتجاوز تاريخ صور المربع الطائفي الضيق -الذي صنعته الطبقة السياسية في لبنان بعد الحرب الأهلية- واتفاق الطائف، كما يتجاوز ذاكرة الحرب التي تعرضت فيها مدن الجنوب اللبناني -معقل حزب الله- وحاضنته المجتمعية للعدوان الإسرائيلي، ناهيك عن شعارات “المقاومة” و”الممانعة” التي أضحت وغيرها من وسائل حزب الله القمعية، وأدوات عزل ونبذ المعارضين لسياساته، سواء بواسطة العنف الرمزي أو المادي.