كتبت الدكتورة علياء إبراهيم :

لطالما كانت القراءة ملاذي الدائم، ألجأ إليها هرباً من أعباء الحياة وضغوطها. إنها متعتي التي لا تكتمل إلا حين أمسك كتاباً بين يدي، وأشعر بنعومة أوراقه بين أناملي، وأضع نظارتي استعداداً لقراءة السطور، وما بين السطور، بينما يقبع قلمي الفسفوري بين أصابعي، جاهزاً لإضاءة الكلمات التي تستوقفني. هناك سحر خفي للكلمات لا يُقاوَم، حوار صامت يدور بيني وبين النص، لا يسمعه إلا من يعشق القراءة.
في السنوات الأخيرة، باتت للقراءة طقوسها الخاصة؛ تبدأ من مقهاي المفضل، عند طاولتي المعتادة في الركن الهادئ، حيث ينتظرني كوب «اللاتيه». أحرّك الملعقة بداخله، فتتداخل طبقات القهوة بالحليب والشوكولاتة، كما تتداخل الأفكار في رأسي مع كل صفحة جديدة.
هذه المرة، وقعت بين يديّ رواية أثار عنوانها فضولي: «ثرثرة في مقهى إيفانستون». لم تكن مجرد قراءة، بل شعرت كأنني أجالس مؤلفتها، الأديبة الفلسطينية هناء عبيد، المقيمة في شيكاغو، وأستمع إلى ثرثرة أبطالها في ذلك المقهى البعيد، في إيفانستون، الواقعة شمال شيكاغو.
زرت شيكاغو منذ خمسة عشر عاماً، ومعرفتي بها وبإيفانستون، جعلت الرواية أقرب إلى نفسي، حتى انني لم أتركها إلا عندما وصلتُ إلى الكلمة الأخيرة، لأسباب ستتضح للقارئ العزيز مع السطور المقبلة.

تدور أحداث الرواية حول (سيرين) وصديقتها (سارة)، اللتين كانتا كالتوأم منذ تعارفهما في المدرسة. (سارة) بثرثرتها التي لا تهدأ عن الماضي وأوجاعه، تصرّ على مناداة صديقتها (سيرين) بـ«سارة العاقلة»، وكأنها الوجه الآخر لها. وعندما قررت (سيرين) الهجرة إلى الولايات المتحدة، رافقتها سارة وزوجها رمزي، فهما لا يفترقان. في مقهى إيفانستون، كانت (سارة) تثرثر مع (سيرين)، بينما تحتسيان القهوة. لكن تدريجياً، يدرك القارئ أن هذا «التوأم» ليس متشابهاً كما يبدو؛ فـ(سارة) غارقة في دوامة الماضي، بينما تحاول (سيرين) رسم حاضر جديد يأخذها نحو مستقبل يضيء ظلمة النفس، بسبب شعور الحنين إلى (فلسطين) الذي لا يفارقها.
تختفي (سارة)، إلا أنها تظل تتواصل عبر البريد الإلكتروني مع (سيرين)، وتخبرها أنها قتلت زوجها (رمزي)، وتطلب منها أن تكتب قصتها، فإذا بـ(سيرين) تحمل عبء كتابة قصة عاشت تفاصيلها المؤلمة قبل ذلك في الواقع.
مع تصاعد الأحداث، تتكشف الحقيقة المدهشة: (سيرين) و(سارة) ليستا سوى شخص واحد. (سارة) لم تكن سوى إسقاط لآلام (سيرين)، تجسيداً لشخصية أخرى داخلها، تشاركها الحنين والقهر. (سيرين) التي لم تستطع الانتقام لوالدها الذي قُتل على يد الاحتلال الإسرائيلي، صنعت عالماً موازياً، جعلت فيه (سارة) تنتقم من (رمزي)، كما كانت تتمنى أن تنتقم لوالدها الذي قُتل على يد الاحتلال الإسرائيلي؛ قتلوه وفتتوا عظامه، كما أخبرها خالها، وكأنها تعيد كتابة الماضي بطريقتها الخاصة، تصنع عدالة لم تجدها في الواقع، وتحاول شفاء جرح لم يلتئم قط.
الرواية ليست عن الصراع بين الماضي والحاضر، بل تتناول أثر الاحتلال على النفس الفلسطينية، ليس فقط بالموت والدمار، بل أيضاً بالتشوه النفسي؛ ذلك الجرح العميق الذي قد يكون علاجه طويلاً، إن لم يكن مستحيلاً.
وقد عبّرت (سيرين) عن هذا الجرح بقولها: «أموت قهراً وغيظاً حينما أسمع بشهادة بريء فقد حياته بسبب دفاعه عن أرضه واسترداد حقوقه. كم تمنيت أن أحمل حجراً لأدق به عظام هؤلاء الوحوش الذين لا يتلقون عقاباً على جرمهم».
كلمات البطلة في الرواية تتجاوز حدود الرواية، لتتغلغل في الواقع الفلسطيني الذي يعيد نفسه، حيث الظلم ووحشية العدو في تصاعد، والمقاومة بأشكالها المختلفة هي السبيل الوحيد للبقاء. وهذا ما جعل الكاتبة تبرز نوعاً من المقاومة يمكن تسميته «المقاومة الناعمة في المهجر»؛ عبر الإصرار على إحياء التراث الفلسطيني، من الأزياء إلى الأكلات، ومن الاحتفاء بالمناسبات الوطنية إلى الإبقاء على روح الوطن حية رغم الغربة.
لقد أدركت، عزيزي القارئ، أنني وقعت في دوامة من الأحداث المتداخلة والمترابطة، المليئة بالشجن والحنين للوطن، لكن الكاتبة استطاعت أن تمنح القارئ وسط هذا الشجن مساحة للشعور بالمكان، حتى إن كل مشهد ينبض بالحياة، حيث تأخذنا الأديبة المبدعة إلى الأماكن والمباني في (إيفانستون)، فتصفها بالكلمات وكأنها ترسمها للقارئ رسماً. ربما يعود هذا إلى خلفيتها كمهندسة، إذ يسري في روايتها طيف من أدب الرحلات. فالمدن في روايتها ليست مجرد أماكن، بل حكايات عالقة في الذاكرة. في حديثها عن الخليل، يشعر القارئ وكأن المدينة شخصٌ حي، حين تقول سيرين: «فلسطين ابنتي، والخليل ابني».
نجحت الكاتبة في إثارة خيال القارئ ليرى الأماكن والمباني، بل ويلمس بأنامله تطريز الثوب الفلسطيني حين تصفه (سيرين) قائلة: «الأثواب تحفة فنية تراثية، تتوزع الألوان فيها لتعطي دفئاً خاصاً للقلب حين التمتع بالنظر إليها».
ولن تستطيع إلا أن تتعاطف مع بعض شخصيات الرواية – التي لا أريد أن أكشف كل أحداثها – بلا هوية واضحة، وكأنهم ينتمون للاغتراب أكثر من انتمائهم لمكان محدد. فعدم الإشارة إلى جنسياتهم يؤكد أننا أمام رؤية إنسانية لا تختزل الإنسان في وثيقة رسمية، بل في شعوره بالانتماء أو بالضياع، وبينما تلمس عدم تحديد لجنسيات بعض شخوص الرواية، إلا أنك تجد إصراراً وتمسكاً بالهوية الفلسطينية في كل تفاصيل الرواية؛ في التراث والطعام واللغة، وكأن الكاتبة تريد أن تفرق بين الوطن المحتل الذي لابد أن يتمسك أبناؤه به، ويظل يسكنهم مهما ابتعدوا عنه، وبين من اختار الغربة أو اضطر إليها، ولكنه ينتمي إلى وطن، وجذوره ممتدة في أرض لا يحتلهما عدو، فكلاهما منتهٍ إلى وطنه، وكلاهما لديه الحنين ولكن…
وأعود إلى صفحات الرواية، حيث تظهر المفارقة: فبينما يعيش الفلسطيني صراعاً يومياً مع الاحتلال في وطنه وفي غربته وفي نفسه، نجد في الرواية شخصية مثل السيدة (نانسي) الأمريكية، التي تتعامل مع القضية بإنسانية، وتفصل بين الشعوب والحكومات. وكأنها رسالة من الكاتبة أن العدالة لا تزال ممكنة، طالما وُجدت الإنسانية.
انتهيت من الرواية التي صاغتها الكاتبة بلغة تنتمي إلى السهل الممتنع؛ مفرداتها تتدفق بسلاسة، تحمل موسيقى خاصة، لا تتكلف البلاغة، لكنها تبني نصاً له وقع إيقاعي مميز.
عزيزي القارئ.. أكتب هذه السطور، والعالم يشهد محاولة العدو إبادة أهل غزة أو تهجيرهم وإبعادهم عن أرضهم، فتقف مصر قيادة وشعباً كالحصن الحصين، تدافع عن القضية الفلسطينية، وعن حق الشعب الفلسطيني في الحرية وفي استعادة أرضه وإعلان دولته وعاصمتها القدس، وتؤيد مصرَ حكوماتُ وشعوبُ البلدان العربية، متمسكين جميعاً بـ «لا الأولى ولا الثانية»؛ «لا» تصفية للقضية، و«لا» تهجير للشعب الفلسطيني من أرضه، فأجدني أتساءل: هل كانت هناء عبيد تستشرف هذه النوايا الخبيثة للعدو؟
ما يثير الدهشة أكثر أن الرواية، رغم صدورها قبل الأحداث الأخيرة في غزة، بدت وكأن الأديبة الفلسطينية ترصد مستقبلًا قاتماً لوطنها.. أم أنها كانت ترى بعين الأدب ما ينتظر وطنها؟
(ثرثرة في مقهى إيفانستون) ليست مجرد سرد لحياة امرأة مغتربة، بل هي نافذة تُطل على تصدعات الروح الإنسانية؛ على القهر والظلم والألم عندما يزلزل الإنسان ويفصله حتى عن نفسه، وهي نافذة يمكن أن يطلّ منها القارئ على قصص الحنين للوطن من خلال لغة شاعرية، تعبّر بها الأديبة عن إحساس الغربة بأسلوب رقيق وتقول: «قلبي أصبح قطعة فحم معطوبة غير صالحة لإشعال وهج الحياة».. «البعد عن الجذور موت». لأدرك وأتيقن أن (مقهى إيفانستون) لم يكن في الرواية مجرد مكان، بل نقطة مواجهة بين سيرين وقرينتها في بلاد المهجر الباردة، حيث يصبح التأمل وسيلة للبحث عن الذات وسط وجع الغربة، وألم الذكريات، وقهر الظلم، والحنين إلى الوطن الذي يئن أصحابه تحت وطأة عدو محتل ومغتصب، يمارس وحشيته دون رحمة.
رواية المبدعة هناء عبيد هي رحلة أدبية أخذتني من عالمي لتبحر بي في أعماق النفس الإنسانية، وتثير في ذهني العديد من التساؤلات:
هل كانت بطلة الرواية تهرب من الغربة، أم أنها كانت تخلقها داخلها؟
وهل نضطر نحن جميعاً، في لحظةٍ ما، أن نخلق «آخر» نحاوره، سواء كان عن وعي أو عن غير وعي؟
وأخيراً، هل نحن من نسكن الوطن، أم أن الوطن هو الذي يسكننا؟
وهل نحن نبتعد عن الوطن جسداً، ونظل نعيش فيه حباً وولاءً وانتماءً؟
#أنتهى #