كتبت عالية الشيشاني

مع تفجر ثورة المعلومات وتطور وسائل المعرفة وتنوع ادواتها اصبح  متاحا لكل شخص الوصول الى مختلف فروع العلوم ، واصبح بالامكان مثلا تعلم العديد من اللغات عن بعد، وفتح المجال للجميع للتعبير عن ذواتهم وافكارهم ، او نشر ما لديهم من علوم ومعارف وعرض مهاراتهم عبر انشاء قنوات على منصات التواصل الاجتماعي يطل بها صاحب القناة على الجمهور . هذا التطور اضاف الكثير لمشروع الدعوة الاسلامية ، فقد استغل  العلماء والدعاة والمصلحون هذه المنصات لنشر الدعوة الاسلامية والعلم الشرعي واصبح لديهم تواجد قوي على  الساحة الدعوية من خلال منصات التواصل الاجتماعي مثل  فيسبوك ، يوتيوب ، تلغرام وسواها .

قبل عقدين او يزيد لم يمكن  بمقدور كل داعية او مختص بالعلوم الشرعية  التواجد على القنوات الفضائية (الرسمية منها والخاصة) بغية نشر العلم لعامة الناس ، ذلك ان لكل قناة سياستها الخاصة التي تحددها الجهة التي تملكها والتي ربما تتعارض مع ما يود الضيف طرحه من افكار وقد لا يعطى الوقت الكافي الذي يحتاجه ليعبر عن رأيه ، ايضا لم يعد بامكان معظم المهتمين بتلقي العلم الشرعي ودروس القرآن حضور الدروس الدينية في المساجد والمراكز بسبب مشاغل العمل وتغير نمط الحياة وأسباب اخرى .  من هنا بدت المواقع الالكترونية وفي مقدمتها اليوتيوب أدوات  مناسبة لكي ينطلق الدعاة ورجال الدين من خلالها  لحمل رسالة الدعوة وتعريف الناس بشؤون دينهم ، وايضا سهلت الطريق على المهتمين بالعلم الشرعي وطلاب الشريعة لبلوغ غاياتهم .

في هذا المقال احاول ان ارصد  كيفية التعاطي بين العاملين على هذه المنصات وكيف يفكرون  وسبب هذه السجالات والمشاحنات والبغضاء فيما بينهم .

المتصدرون للدعوة ونشر العلم الشرعي  يندرجون تحت تصنيفات عدة ، فمنهم الفقهاء وطلاب العلم الكبار وهؤلاء ليسوا كلهم  بالضرورة نشطاء على مواقع الانترنت بل ربما قام محبوهم وتلامذتهم بنشر علمهم وشرح مؤلفاتهم من خلال قنوات يقومون هم بانشائها وهذا يشبه الى حد ما الجهد الذي كان يقوم به تلاميذ العلماء في القرون الماضية من نشر لمؤلفات شيوخهم وتعريف العامة بعلمهم ومناقبهم . ايضا هناك شيوخ وطلاب علم كبار  يستخدمون كل المنابر الالكترونية المتاحة لعقد مجالس العلم والتعريف باصداراتهم ويعقـدون الدورات العلميـة للعامة ، ومن هؤلاء من لديه نشاط دعوي واسع ومساهمات في مشاريع تطوعية في بلدان افريقيا وآسيا كافتتاح المدارس وحفر الآبار وسواها من الاعمال النافعه معتمدين على تبرعات المشتركين في قنواتهم .

يلي العلماء والمشايخ  فئة المفكرين والمصلحين ، بعضهم يحمل درجات علمية مرموقة في مختلف فروع العلوم الطبيعية ، ولديهم اعمالهم الخاصة ومشاغلهم ومع ذلك يبذلون الجهد عبر قنواتهم لنشر الوعي الديني  وتفنيد الشبهات ويسعون الى مخاطبة فئة الشباب لابعادهم عن مخاطر الشرك او الوقوع في براثن الالحاد خاصة في ظل غياب التوعية الاسرية احيانا وتراجع دور المدرسة في مجال التعليم الديني في العديد من البلدان العربية ، هذه الفئة التي توظف معرفتها بالعلوم الطبيعية والانسانية  لنشر الدعوة ودحض الشبهات ( خاصة شبهات الملاحده) بطريقة علمية ، لديها متابعون كثر وتحظى بتقدير كبير خاصة بين فئة المثقفين .

يلي هؤلاء ،  فئة الدعاة الذين يقدمون الموعظة والنصح ويعلقون على الاحداث المستجدة على الساحة مستغلين حضورهم المميز وبلاغتهم اللغوية ، ومنهم من حصل قدرا جيدا من العلم الشرعي والقراءة المتعمقة ما  يمكنه من الحوار مع اصحاب الديانات الاخرى او الرد على شبهات الملحدين .

واخيرا هناك القصاصون ، الذين يسردون القصص والحكايا بنكهة دينية وهذه الفئة ربما تضر اكثر مما تنفع وخاصة فيما يخص قضايا المرأة ، وسنتناول بعضا من نشاط هذه الفئة في سياق المقال   .

الا انه من البديهي القول ان الشيء وضده قد يجتمعان معا .  لذلك اردت ان ارسم خريطة تبين ابرز الملامح  السلبية الناتجة عن هذا الزحام الدعوي فخرجت ببعض العناوين :

*  شيوخ الترند :

هنالك عشرات القنوات الدعويه بغض النظر عن حقيقة المكانة العلمية لاصحابها ، وبسبب هذا الازدحام الشديد بات  الدعاة  مقتنعين بضرورة التواجد باستمرار والظهور على جمهورهم اذا ارادوا الاستمرارية  لقنواتهم ، لذلك نرى بعضهم يتسابق في نشر الفيديوهات للتعليق على الاخبار الساخنة وقولبة هذه الاخبار بحيث يبدو تناولها والتحدث بشأنها وكأنها خدمة للدعوة ، ومن هنا توجب الحديث عن كل شيء ابتداءا من تغطية اخبار مونديال قطر الى تخصيص حلقة للحديث عن سبب العنصرية ضد لاعب برازيلي ، الى تناول مسألة شؤم احد المطربين الذي يتسبب بخراب كل بلد يغني لها ، بل ان البعض منهم اصبح يسخر وقته لمتابعة اخبار الفن والنجوم من ممثلين ومغنين معللا ذلك انه من باب التحذير من شرور الوسط الفني، وهذا امر جيد من وجهة نظري ، فهو يساهم في توعية  الشباب الباحثين عن قدوات لكي لا ينساقوا وراء بريق الشهرة والنجومية الكاذبة ، كذلك ارى ضرورة التحذير من بعض المسلسلات الدرامية التي تحاول غسل عقول الناس بالافكار المشبوهة والقيم الدخيلة على مجتمعاتنا، هذا كله جيد ولكن الامر يبدو زائدا عن الحد المطلوب في بعض الاحيان، اصبحت ادخل الى قناة احد هؤلاء الدعاة لاجد فيديوهات تشرح  المسيرة الفنية لممثل كوميدي ناهز الثمانين من عمره وكيف انه سخر فنه للنيل من الدين ومن الملتزمين ومراحل تطور افلامه  وشرح مفصل لمواضيع افلامه مع ذكر السنة التي انتج فيها الفيلم ، وتغطية اخرى لوفاة الفنان الفلاني مع لقطات من افلامه، وعناوين من نوع “اخطر لقاء مع الممثل فلان”  ، ايضا حلقات ( ليست حلقة واحدة) لتغطية خبر الوفاة المفاجئة لفنان شاب . مثل هذه المقاطع التي تتناول اخبار الفنانين ستكون عليها نسبة تعليقات لا بأس بها  ليقوم الداعية على اثرها بانتقاء بعضها والرد عليها في حلقة جديدة لتتوالى الفيديوهات تباعا حول مسائل لا طائل من ورائها ،  بسبب مثل هذه القنوات  “الدعويه”  اصبحت اعرف الكثير عن اللقاءات الاعلامية التي تجرى مع الفنانين وعن انتماءاتهم واخبارهم وقناعاتهم ، من يرضى منهم ان يقبل الممثلات في افلامه ومسلسلاته ومن لا يرضى ، ومن منهم يرفض مشاهد القبلات  لكنه يرضى بالمشاركة في عمل فني يقوم فيه احد زملائه الممثلين بتقبيل ممثله ، وهكذا طوال الفيديو الحديث عن القبلات لا ينتهي ، وجوه فنيه من زمن الابيض والاسود  لم اشاهدها منذ سنوات طويلة ولا اكترث لاخبارها باتت تظهر لي في  قناة دعوية والتي يقول صاحبها انه لا يشاهد ابدا المسلسلات والافلام ، اذا كان الامر كما يقول فمن أين جاء بهذا الكم من المعلومات والاخبار الفنية ؟ الجواب تجدونه في سياق المقال .

المفترض ان من يدخل الى قناة دعوية يفعل ذلك لكي يحصل شيئا من العلم الشرعي  او ليتعرف الى الشبهات التي تلقى على الاسلام وكيفية الرد عليها،  او على الاقل  للاستماع الى موعظة ترقق قلبه وليس لمطالعة عناوين من نوع ( لماذا حذفوا اغنية م . ع الاخيرة ؟) اوممثل يشجع ابنه على اداء مشاهد القبلات)،  والامر ليس مقتصرا على الدعاة الشباب  ، لكنني استغرب ان  التعليق على اخبار الفنانين ونعيهم عند وفاتهم ، اوالشماتة فيهم اذا ما اقعدتهم امراض الشيخوخه –  امر بات يفعله بعض الدعاة ممن لهم تاريخ جيد في الدعوة .

* ما يطلبه الجمهور :

الكثير من المتابعين لهذه القنوات  ما ان يقتنع الواحد منهم بطرح  داعية او مصلح ويستقر رأيه على متابعته حتى يبدأ بالتواصل معه ومطالبته بالخروج على قناته والتكلم في امور واحداث قد تكون خارج اهتماماته او اختصاصه ، ذكرنا في بداية المقال الداعية الذي يقوم بدور الصحافة الفنية ، لاحقا ذكر ذلك الداعية ان متابعا من بلد عربي هو من يزوده بتلك الاخبار الفنية ويطلب منه التعليق عليها .

بعضهم كلما استشكل عليه امر يبدأ بالالحاح في طلبه ويبقى يذكر صاحب القناة ببيان الرأي حتى يرضخ الاخير ويخرج للتحدث اما عن مسألة أثارها احد العاملين في الحقل الدعوي او مسألة يعتقد البعض ان لها علاقة بالدين ، او للحديث عن داعية او شيخ بعينه اراد المتابعون معرفة قدره العلمي وسأضرب بعض الامثلة للتوضيح .

هناك الجدل الدائر حاليا حول شكل الارض هل هي مسطحه ام كروية ، اصحاب القنوات التي تنادي بنظريات المؤامرة والتي تقول بأن الارض مسطحه جعلوا الايمان بهذا الامر يبدو وكأنه ركن من اركان الدين مستندين الى فهمهم الخاص لآيات وردت في القران الكريم وبالمقابل انبرى فريق آخر يحاول الدفاع عن حقيقة علمية مثبتة منذ قرون طويلة وهي ان الارض كروية وتدور حول نفسها وحول الشمس. وهنا توجب على الدعاة والمصلحين – وبضغط من متابعيهم –  التصدي للحديث في هذه المسألة ولقوا كثيرا من التهجم والسخرية من اصحاب قنوات المسطحين وجمهورهم.  هناك مثال آخر : الجمهور يصرعلى معرفة رأي الداعية او الشيخ المفضل لديه  في كل من يتصدر للدعوة على مواقع التواصل ، فيرسلون له اسئلة من نوع هل نستمع للشيخ الفلاني  ، واذا ما امتثل لهم وقدم نقدا او مراجعة لما يقدمه ذلك الداعية عندئذ تقوم قيامة الطرف الآخر ليرد عليه بفيديو يبرر به منهجه  ومتهما الطرف الآخر بالاساءة اليه وتتوالى المعارك الكلامية .

المتابعين الذين يساهمون في خلق هذه الفوضى ليسوا سواء فمنهم الذي يثق برأي الشيخ الذي يتابعه ومقتنع بما يقدمه ويطلب النصيحة في توضيح  امر ما  او يريد التأكد من صدق نوايا داعية ظهر على الساحة ،  فيساهم دون قصد في إثارة البلبلة ، وهناك فئة من الجمهور غير جادة في تحصيل المعرفة والفائدة ولكنها توقع اصحاب القنوات في تلك الاشكالات ربما بغرض التسلية او يمكن ان يكون بعض هؤلاء جهلة او مدسوسين على الدعاة والمشايخ بهدف هز صورتهم امام العامه وتشتيت جهودهم بدفعهم للدخول في معارك جانبية .

الجمهور بات متسلطا على الكثير من المؤثرين وبضمنهم الدعاة والمختصين بالتاريخ الاسلامي ، فهم يعترضون على عناوين الفيديوهات ، يعترضون على وجود موسيقى مصاحبه للمادة . هناك مفاصل معقدة في تاريخ الاسلام في القرن الهجري الاول لا يجرؤ الداعية او المؤرخ غالبا تسليط الضوء عليها والتحدث بحرية وعرض كل ما لديه من معلومات وتحليلات بشأنها حتى لا تلقى عليه توصيفات جاهزه من نوع رافضي ، ناصبي ….الخ .

بالمحصلة فان الجهد الدعوي لكي ينجح يحتاج علما و اخلاصا وصدقا من جهة الداعية ، وانصاتا وتفهما ورغبة في التعلم من جهة طلاب العلم  ، وبدون هذا التوازن بين الداعية والمتلقي سيبقى هذا الجانب العظيم من الدين ( الدعوة الى الله ) بلا أثر ملموس على ارض الواقع .

يتبع  في الحلقة الثانية  باذن الله