كتبت الدكتورة علياء إبراهيم

منذ أن عرفتْ الدراما طريقَها إلى سرد التاريخ، لم يتوقف الجدل حول فكرة تجسيد الشخصيات التاريخية، المؤثرة أو المنسية، التي أنصفها التاريخ أو ظلمها، عبر الدراما؛ سواء على المسرح أو على شاشات السينما والتلفزيون.
وانقسمت الآراء بين من يرى ذلك وسيلة لإحياء التراث وتعريف الأجيال بسير العظماء، ما يولّد لديهم مشاعر الفخر والانتماء لتاريخ أجدادهم، ومن يخشى أن يتحول التاريخ إلى مشاهد درامية، تؤدي إلى تزييفه، سواء بتجميله أو بتشويهه.
فحين تتحول الشخصيات التاريخية من سِيَر مكتوبة حبيسة المخطوطات والمصادر والمراجع، يتم تداولها بين المختصين فقط، إلى وجوه وأصوات وحوارات، يتبادر السؤال: هل يملك الفن مطلق الحرية في إعادة تشكيل التاريخ؟ أم أن هناك حدوداً لا يجب أن يتجاوزها؟
وهنا يتولّد العديد من التساؤلات: هل كل الشخصيات التاريخية سواء وتقف على قدم المساواة؟. فهناك من تحيط بهم قدسية لا تقبل التجسيد، ليس فقط لأنهم رسل اختارهم الله لحمل رسالاته، ولكن لأن صورتهم ليست ملكاً لمخيلة فرد أو رؤية مخرج، بل جزء لا يتجزأ من الإيمان ذاته لدى الشخص العادي، بغض النظر عن فتاوى الجهات المختصة، فهناك إشكالية كبيرة لدى الإنسان العادي في تجسيد الأنبياء وأهل بيتهم، الذين يمثلون جزءًا لا يتجزأ منهم.
وعندما ننظر إلى الصحابة، رضوان الله عليهم، نجد أنه مدرجات؛ فمنهم المبشرون بالجنة، الذين حملوا الإسلام في سنواته الأولى، وكانوا الأقرب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ما يجعل تجسيدهم في الدراما محل جدل دائم، ويطرح تساؤلات أخرى من قبيل: هل يمكن للدراما أن تعبّر عن هيبتهم دون أن تفقدهم وقارهم؟.. هل يستطيع أي ممثل أن يؤدي دورهم دون أن يؤثر ذلك في صورتهم الراسخة في الوجدان؟ وما يترتب في عقل المشاهد من صورة ذهنية عن هذا الممثل، فلا يمكن أن يراه في مشاهد، لا أقول مخلّة، بل حتى عادية!.
ثم نصل إلى فئة أخرى، وهم الخلفاء الراشدون، الذين حملوا عبء تأسيس الدولة الإسلامية بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، وتداخلت سيرتهم بين السياسة والدين. وهنا، يصبح التجسيد أكثر تعقيداً، فالأمر لا يتعلق فقط بحياتهم الشخصية، بل بالفترات التاريخية التي عاصروها، والتي قد يختلف تفسيرها بين عصر وآخر.
أما الخلفاء الذين جاؤوا بعد ذلك، من بني أمية إلى العباسيين والفاطميين والأيوبيين، فقد خرجوا – إلى حدٍ ما – من دائرة «القداسة» (إن جاز وصفهم بذلك) إلى دائرة السياسة والحكم، ما يجعل تجسيدهم أقل حساسية، لكنه لا يخلو من العديد من المخاوف والمحاذير. فالتاريخ هنا ليس مجرد رواية، بل شبكة متداخلة من الأحداث والانتصارات والصراعات، التي قد يختلف تصويرها بحسب رؤية صانع العمل والمصادر التاريخية التي اعتمد عليها.
فكاتب السيناريو يعتمد على وثائق ومصادر تاريخية معاصرة للشخصية، وأخرى في فترات لاحقة، لكنها ليست كلها على درجة واحدة من الموثوقية والمصداقية. فبعض المصادر كتبها مؤرخون تأثروا بهوى سياسي أو مذهبي، وبعض الشخصيات نُقلت سيرتها عبر عصور أضافت إليها أو حذفت منها، حتى أصبح من الصعب معرفة الحقيقة مجردة. فكيف يمكن للفنان أن يبني عملاً دقيقاً إذا كانت المادة الأصلية نفسها محل خلاف؟!
في النهاية، يظل تجسيد الشخصيات التاريخية في الدراما مساحة شائكة وشديدة الحساسية بين الإبداع والمسؤولية. بين رغبة الفن في إعادة تجسيد التاريخ بشخوصه وأحداثه، وحق التاريخ في أن يُروى بإنصاف، دون أن يُختصر في مشهد أو يُجتزأ في حوار.
ولابد من الاعتراف بأنه حين يتلاقى التاريخ مع الدراما، لا تُروى الأحداث كما هي، بل كما يراها صانعو العمل. فالمشهد الدرامي ليس مجرد سرد محايد، بل مزيج من العديد من الرؤى؛ رؤية كاتب السيناريو، والمخرج، وطريقة أداء الممثل. لكن قبل ذلك كله، هناك عامل أساسي يحدد شكل القصة وطريقتها في الوصول إلى المشاهد، وهو المصادر التاريخية التي تم اختيارها والاعتماد عليها.
ويبقى التساؤل الأهم: لماذا هذا الجدل المتكرر عبر السنوات الماضية حول التجسيد الدرامي للشخصيات التاريخية التي لها خلفية دينية، بعيداً عن الأنبياء، والذي يتجدد كلما تم إنتاج عمل درامي عن شخصية ما؛ مثل الجدل المثار حالياً عن مسلسل معاوية بن أبي سفيان، الذي وصل إلى الاختلاف حول سبب طلاقه لزوجته؟!
في اعتقادي إنه إدراك المعنيين بالأمر لقوة الدراما نفسها وتأثيرها اللامحدود، فرغم أن الكتب التاريخية قد تكون أكثر دقة، فإن المشهد المصور أكثر قدرة على ترسيخ صورة ذهنية تدوم طويلًا في عقل المشاهد عبر أجيال وأجيال، هنا تصبح الدراما أقوى من أي وثيقة مكتوبة بسبب العديد من العوامل كالديكور والمهارات الصوتية والبصرية وأداء الممثلين، فمثلا صورة الخليفة العباسي هارون الرشيد تكوّنت في أذهان الناس ليس للخليفة العالم القوي الذي قاد دولة مترامية الأطراف، بل الرجل الذي أضاع وقته في اللهو والجواري، كما صوّرته بعض الأعمال الدرامية، بل واستخدمت هذه الصورة المغلوطة في الإعلانات!
ومهما قرأت عن صلاح الدين الأيوبي، ستظل صورته وهو يعالج ريتشارد قلب الأسد في خيمته منقوشة في ذاكرتك، لأن الفيلم صنع لها حضوراً أقوى من أي نص تاريخي. لا يهم إن كانت هذه الحادثة وقعت فعلاً أو لا، فبمجرد أن تتجسد على الشاشة، تصبح هي الحقيقة في نظر المشاهد العادي.
وهكذا، لا تقتصر الدراما على سرد التاريخ، بل تعيد تشكيله في وعي المشاهد، فتضفي على الشخصيات ملامح لم تكن، وتهمل تفاصيل ربما كانت جوهرية، وتعيد رسم الأحداث وفق رؤية صانعيها، لا كما جرت في واقعها.
وبين الدراما والتاريخ، يبقى التساؤل: هل تمنحنا الدراما فهما أعمق للتاريخ، أم تصوراً مغايراً عنه، سواء أجمل أو أسوأ؟
#أنتهى #