الشارقة-الليلك نيوز متابعة شيمازا فواز الزعل
في قلب معرض الشارقة الدولي للكتاب وفي أحضان مركز إكسبو الشارقة للمعارض المؤتمرات ، حيث تمتزج رائحة الورق بعطر الحبر، وتتنفس القاعات حكايات الحضارات وخلال تجوالنا في أروقة المغرض أسوقتنا منصة بيت الحكمة التي فتحت لنا بوابة جديدة للحوار بين الشرق والغرب، ليعيد إلى الأذهان زمن المجالس العلمية في بغداد القديمة، وقرطبة وطليطله بالأندلس حين كانت الكلمة تجتاز من يبحر بها ويغوص في معانيها كل بحار لتعانق الفكرة .
في ‘طار برنامج الفعاليات للدورة الرابعة والأربعين من المعرض أقيمت فعالية مميّزة حملت عنوان ” رحلة التبادل المعرفي بين العرب واليونان”، حيث اجتمع الأدب والفكر والفن في مشهد يختصر قروناً من التفاعل الإنساني الخلّاق.
منذ اللحظة الأولى لدخول الزائر إلى الجناح، يشعر بأنه ينتقل في الزمن.
هناك بين الضوء الهادىء والألوان المستوحاة من المخطوطات القديمة، تبدأ الرحلة بعرضٍ مرئيّ يستحضر قصة انتقال العلوم اليونانية إلى العربية. في هذا الركن تتجسّد مشاهد المترجمين في بيت الحكمة العباسي، أولئك الذين جمعوا بين دقة الحساب وبهاء اللغة، فحوّلوا المعرفة إلى جسر يصل بين أثينا وبغداد، وبين الفلسفة والعلم والدين.
أما القسم الثاني من الجناح، فكان بمثابة معرضٍ فني صغير، حيث عُرضت لوحة نادرة للفنان يحيى بن محمود الواسطي مأخوذة من كتاب مقامات الحريري (1237م). بدت اللوحة كأنها نافذة مفتوحة على عالمٍ عربيّ يفيض بالحياة، تحكي عن جماليات الفن العربي في زمنٍ كان القلم فيه رفيق الريشة، وكانت الحروف جسراً بين الإبداع والتأمل.
وفي القسم الثالث، توقف الزوّار أمام كنوزٍ فكرية نادرة من مقتنيات دار المخطوطات في الشارقة. مخطوطات تروي تاريخ العقل العربي، حين تلاقى مع الفكر اليوناني في حوارٍ طويلٍ لم يعرف الانقطاع. هنا، يمكن للعين أن تتأمل رسالة الحاتمي فيمن وافق المتنبيّ في شعره لأرسطو أو كتاب “إيساغوجي” لأثير الدين الأبهري، أو رسالة قطب الدين الشيرازي في العمل بالكرة الفلكية، أو حتى الطبعة الأولى من “القانون في الطب” لابن سينا التي حفظت أسرار الجسد والروح، إلى جانب كتاب تحرير أصول إقليدس لنصير الدين الطوسي ( 1594م) الذي مثّل انطلاقة جديدة في علوم الرياضيات والهندسة.
لم يكن الجناح مجرد معرضٍ للكتب والمخطوطات، بل كان سرداً بصرياً لتاريخْ طويل من التفاعل الثقافي بين الحضارتين العربية واليونانية. فمن خلال الترجمة والحوار، تحوّلت الفلسفة إلى علم ومنهج وحضارة.
كانت بغداد، كما الشارقة اليوم، مكاناً تتقاطع فيه اللغات والأفكار، ومختبراً حيّاً لولادة المفاهيم التي غيّرت مسار الإنسانية . وبين الجدران التي تزينها الاقتباسات والمخطوطات، تجمّع الحضور حول الشاشات والعروض التفاعلية التي جسّدت فكرة “بيت الحكمة ” في ثوبٍ معاصر، حيث التكنولوجيا تخدم التراث، ويمكن للزائر أن يتأمل المخطوطات النادرة بتقنية العرض الرقمي، مستشعراً نبض التاريخ في تفاصيل الخط والحبر.
قالت مهرة القصير، المتحدثة الرسمية باسم “بيت الحكمة”، في حديثها للزوار: “لسنا هنا لنحتفي بالماضي فحسب، إنما لنتعلّم كيف نعيد إحياءه. فالحوار الذي بدأ بين العرب واليونان لم ينتهٍ ، إنما يتجدد اليوم في الشارقة ، ليذكّرنا بأن الحضارة لا تنتمي إلى مكانْ أو زمنْ، بل إلى الإنسان الباحث عن الحقيقة والجمال”.

ويعكس هذا الجناح فلسفة بيت الحكمة في الشارقة كمؤسسةٍ ثقافية معاصرة ٍ تمزج بين الماضي والمستقبل، وتؤمن بأنّ المعرفة ليس ترفاً فكرياً هي ضرورة إنسانية ،

فالمخطوطات التي وُلدت في بغداد ودمشق والقاهرة ، ثم جانب أثينا وقرطبة، تجد اليوم في الشارقة موطناً جديداً، يفتح أمامها نوافذ الضوء والدهشة.

ومع انتهاء الجولة ، يخرج الزائر محمّلاً بإحساسٍ بأن الزمن دائرة، وأن الفكر الإنساني سلسلة واحدة تتعاقب فيها اللغات، لكن المعنى يبقى واحداً، أن الحضارة ابنة الحوار، وأنّ “بيت الحكمة” الجديد في الشارقة ليس مجرد بناءْ من زجاج وحديد، وهو امتداد لبيتٍ عريقٍ كان القلب النابض لعصر من النور.

-انتهى =