*كتبت سميحة الحوسنية*

نامت (غزل) على وسادة من ضباب تحلم بطفولة هادئة ،تلعب بدميتها وتقطف الورد من بساتين غزَّة.. نامت ليوقظها نور يخرج من أبواب الجنة فكانت ابتسامتها وضحكاتها لحياة تخلو من أصوات القصف ورائحة الموت والخوف وأبواق الدمار. كان فجرًا مخيفًا أسمع فيه صوت الطائرات وهي تمر فوق سقف المنزل ودوي سقوطها المرعب كأنها ديناصورات تصدر أصواتًا مخيفة.. رأيت فجر أكتوبر مختلفًا اختنقت فيه الآهات، فكانت مشاهد مؤلمة لجثث بيضاء متراكمة.. كنت أختبئ في جلباب جدتي التي تردد كلمة (حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا إسرائيل).. حفظتها عن ظهر قلب.. كنت أتمنى أن تنتهي تلك اللحظات لأخرج للقاء (غزل) عند دكان الحارة نشتري البطاطس وبعض الحلويات.. ونتبادل الدمى.. هذه المرة سأشتري لها بنقودي المزيد من الشكولاته التي تحبها.

ضمَّتني جدَّتي إلى حضنها.. ووضعت يديها المرتجفتين على أذني لكي لا أسمع صوت الانفجارات.. غفوت قليلًا فلم أصح إلا على دمار طال بيوت الجيران.. لقد دمرت منازلهم.

سمعت أمي تقول وهي تهرول إلى بيت (الجيران): راح شبابكم يا حبايبي العوض بالجنة.. لم أفهم ما تقوله أمي، فأبي يحمل ابن جارنا (أحمد) وأخواته الصغار برفقة والدهم إلى طريق المستشفى، وخالي سامر ينظر تحت تلك الأكوام الهائلة من الانقاض، هل تسمعوني؟!.. هل هناك من هو على قيد الحياة؟!

أدركت عندها أن الانفجار طال أيضًا بيت (غزل).. وأن منزلهم تحول إلى أكوام من التراب.. أفلت يد جدتي وركضت باتجاه بيتهم لرؤية (غزل) لقد ابتلعتها الأرض.. فهي تحت تلك الأكوام بدأت أناديها وأنا أحتضن دميتي التي أهدتني إياها في يوم ميلادي.. سمعت صوتًا خافتًا يكاد يسمع.. إنها (غزل) تمد يدها وتصرخ أمي.. ناديت الجميع وبدأت عملية إنقاذها.. ولله الحمد تم نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج وذهبت مع أمي في اليوم الثاني لرؤيتها.. وجدت آلاف الأطفال تأن وتصرخ من الألم.. الدم بحيرات تتلاطم فيها أمواج الوجع.. الوجوه واجمة ورائحة الدم والمرض تنتشر في كل مكان.. لقد بتر قدم (غزل).. أصابني الحزن عليها وعلى طفولتها.. وكان السؤال الذي يغزو مخيلتي: متى ستخرج من المستشفى؟ فالحياة لا تطاق بدون (غزل) صديقة طفولتي. مضت أيام وفقدت خلالها الكثير من أصدقائي في الحارة.. ماتت جدَّتي عندما كانت تصف في طابور المخبز تنتظر دورها لتجلب لنا الخبز في الصباح الباكر.. لقد أصيبت بسكتة قلبية.. ساد الحزن منزلنا كما ساد غزَّة المكلومة التي توشحت بالحداد.. لا لحظات فرح تذكر. مضت أيام عديدة.. كنت أبكي عند الذهاب إلى المدرسة لتناقص أعداد زملائي.. وكلما نظرت إلى مقعد (غزل) أشعر بجمرات تكوي قلبي.. كانت (نوران) هي معلمتي وابنة عمي (رائد). وحينما كانت تشرح لنا الدرس وإذا بصاروخ يقصف الحي السكني بالقرب من مدرستي.. دبَّ فينا الخوف فاحتضنتنا المعلِّمة وهي تردد بعض آيات من القرآن الكريم ونردد معها.. حالة من الفزع.. أدركت عندها أن هناك الكثير من الجثث في الخارج.. جاءت أُمي وأبي إلى المدرسة.. الكل يعيش حالة من الهلع.. عندما خرجت من الصف وجدتهم في الخارج بانتظاري.. احتضنتني أُمي وقال لي أبي: لا تخافي نحن معك يا (زهور).. خرجنا من المدرسة إلى منزلنا وأنا أعيش حالة نفسية من جراء الموقف.. لم أستطع أن أتجاوز تلك الحالة.. أخبرت أُمي بأنني أود رؤية (غزل) لأخبرها عما جرى.. انهارت والدتي من البكاء، وقالت لي: لقد ذهبت (غزل) إلى السماء عند ربها فجر هذا اليوم.. لم أدرك حديث أُمي وكررت طلبي لها.. أخبرني أبي أن (غزل) لم تتحمل آلام بتر قدمها والتي أجريت لها بدون عملية تخدير.. فأي ألم تجرعته في تلك اللحظات. آه .. آه حبيبتي (غزل).. أصابني المرض من سوء الأحوال الصحية وقلة التغذية.. ولأنني كنت أعاني من أنيميا حادة في الدم.. كانت أسياط الحمى قاسية.. مضىت أسابيع على ذلك الوضع الصحي.. استيقظت على فاجعة أخرى.. لقد انتهى العام الدراسي لموت جميع الطلبة.. من سيعيد لي طفولتي.. وأصدقائي وأمنياتي وأحلامي.. وصديقة عمري (غزل).. وزملائي في المدرسة والحارة.. ودكان الحارة الذي لم يصمد أمام القصف وراح ضحيته العم (رمضان) الذي كان يعطيني الحلويات بالمجان ويربت على كتفي عندما فقدت (غزل) التي كانت كثيرًا ما تحكي له بعض يومياتنا في المدرسة.

أصبحت أيامي ثكلى بالألم.. أتجرع غصص الفقد.. وكلما اعتصرني الوجع أهرع إلى حضن أُمي وأبي حتى الخبز لطخ بالدماء.. هناك من ذهب لإحضاره ولم يَعُد.. ما زال القصف والدمار من حولنا.. كنت أقف على نافذة النور في غرفتي المطلة على المسجد الأقصى، هكذا كنت أسميها لجمال المنظر الذي أكحل عيني به كل صباح ومساء وقلبي يعتصره الألم.. وذات صباح تركنا منزلنا في اتجاه مصير مجهول لتأوينا الخيام ننتظر غدًا يحمل الأمل لانتهاء تلك المجازر احتضن دميتي أشتم فيها رائحة (غزل).. بقلب ينبض بحب غزَّة.

ولكن لم تنتهِ مأساة غزَّة.. فشلَّال الدم مستمر.. فمن يحقن تلك الدماء.. وهل سأعود ذات يوم لغرفتي أفتح نوافذ النور؟

*كاتبة عمانية