كتبت عالية الشيشاني

في طفولتي المبكرة  لم تكن ثمة قنوات فضائيه ولا وسائل تواصل اجتماعي ، كانت قنوات التلفزيون الاردني  هي بوابتي للترفيه والمتعه ، اما الفائدة فكنت احصلها من قراءة كل ما تقع عليه عيناي من كتب وصحف ومجلات .

بما ان مصر هي هوليوود العرب ، فقد كانت الدراما المصرية هي الغالبة ضمن ما يقدم على شاشة التلفزيون ، كنت اتابع تلك المسلسلات التي تتمحور مواضيعها في الغالب على قضايا محددة ، مثل ازمة المساكن وقلة الوظائف وقبل وبعد كل شي ، اخبار العشق والعاشقين ، لم يكن يخلو مسلسل من قصة غدر او افتراق الحبيبين بسبب وشاية من حاقد ، او استحالة الارتباط لغياب التكافؤ في المستوى الاجتماعي ، احد السيناريوهات المتكررة كانت تقضي بتفرق العاشقين وزواج كل منهما من شريك اخر وانشاء اسرته الخاصة، ثم بعد موت او فراق شريك حياة كلا  البطلين يكبر اولادهما  وتتلاقى دروبهم ” بمحض الصدفة ” فيكونون سببا في اجتماع العشاق مرة اخرى ، يتأمل  الرجل في وجه حبيبته وقد اصبحت ارملة او مطلقة ليبث لها ما يجيش في صدره من مشاعر قديمة ، تنهض المرأة من مكانها تسير ببطء وقد غزا الشيب مفرقها ، تدير وجهها للكاميرا ، تصمت برهة ثم تصدر تنهيدة قائلة ( يااااااه ، جاي تقولي الكلام ده بعد عشرررررررين سنه ) ، كانت المرأة تمط الرقم عشرين وتنطقه ببطء ليصل الاحساس الى المشاهد بأن دهرا مضى على نهاية قصة حبهما .

كان عقلي الطفولي يتلقى كل مرة هذه العبارة بكثير من الدهشة ، ومن ضمن العديد من العبارات التي درجت على السنة ابطال الدراما المصريه وتداولها الناس، كانت هذه العبارة بالذات تعني لي شيئا غامضا ، كبرت وانا على يقين بان العشرين سنة هي مدة لا يمكن بلوغها بسهولة ، بل ينبغي ان اتخطى اطوارا عديدة كي اصل اليها ، انها الحد الاعلى ، كنت اظن ان العشررررين سنة ربما تكون نهاية المطاف .

في مطلع شبابي و قبل ان اكمل سنوات المدرسة فقدت والدتي فجأة ، كانت فاجعتي الاولى في حياتي ، زلزال بالكاد نهضت من تحت ركامه سليمة النفس والروح ، كنت اجلس وحدي اتفكر واردد بيني وبين نفسي ( بعد عشرررررين سنة سوف اكون جالسة مستندة الى ظهر مقعد في حديقة او مكان ما منعزل ) ، استدعي ذكرى امي التي فقدتها للتو، وسوف ادعو لها بالرحمة ولن انساها حتى بعد مرور هذه المدة الطويلة .  اليوم مرت ثمانية وثلاثون سنة على رحيل امي ولا ادري كيف مرت السنين في غفلة مني .

بالامس كنت اقف مع صديقتي المقربة في احدى حفلات الاعراس ، عندما اقترب منها الشاب الذي تحبه ، كان يهمس لها بانه انهى تجهيز عش الزوجيه وانه عما قريب سيرسل والديه لطلب يدها ، اكتسى وجه صديقتي بحمرة الخجل ، من باب الادب أدرت وجهي الى ناحية اخرى اراقب صخب الراقصين المبتهجين . اليوم صديقتي وحبيبها اصبحا جدين يتقافز احفادهما على ظهورهما ومن حولهما .

 وكأنه حصل بالامس ، كنت  في العمل اهبط درجات احدى الطوابق ، عندما  شاهدت ذلك الموظف الشاب الوسيم يقف في الممر مشدود القامة مثل بارودة جندي ، يصغي بانتباه لتعليمات مديره المباشر، يهز رأسه بعد كل جملة تخرج من فم مديره ،محاولا ترك  انطباع جيد عن سلوكه وكفاءته ، في الوقت ذاته ينظر الي من طرف خفي .  اليوم هذا الشاب مضى على تقاعده من العمل عشر سنوات ، بشرة وجهه التي كانت مثل مرآة صافية باتت تملؤها التصبغات   .

 ذلك المطرب الشاب صاحب النظرات الخجولة الذي كان في كل مقابلاته يتحدث عن مشاعر الحب ، عن اعجابه  وتقديره للمرأة ،ذلك المطرب الشاب الذي كان يستشهد دائما بأبيات شعرية لنزار قباني ، هذا الشاب اليوم  صار كهلا ،غارت عيناه الخجولتان داخل محاجرهما وجفت خدوده الورديه.  اليوم لم تعد قصص الحبيبة ولا الاشعار تشغل باله فقد بات يتحدث في مقابلاته عن ضرورة ترشيد استهلاك المياه  ،وعن تعلقه باحفاده  تماما مثل أي كهل يجلس في زوايا النسيان  . ثم تلك المغنية الشابة التي كانت تطرب الجمهور باغانيها الجميله تقف على المسرح ترتدي اجمل الثياب تزين شعرها شرائط صفراء لامعه تهز رأسها يمنة ويسرة في دلال ، اليوم باتت تغني غالبا وهي جالسة على كرسي بعد ان فعلت السنون الافاعيل بشبابها .

كل ذلك واكثر اجده من حولي وفي حياتي ، في تلك الصور والمشاهد المتغيرة ، في المراحل التي انتهت الى غير رجعه ،  فقبل سنوات قليلة كنت اعتني باطفالي احضر لهم  وجبات الحليب ، انتقي ملابسهم بنفسي ولا اسمح لهم باللعب في الباحة الا بحضوري ، اليوم ابنائي اصبحوا طلابا في الجامعات ، لديهم حياتهم  الخاصة وخططهم وطموحاتهم .

لقد اكتشفت ان العشررررررين عاما  كانت كذبة كبرى،وانني تعرضت للخداع ، فقد مرت عقود عديدة بسرعة البرق ، والسهم الذي اطلق قبل اكثر من خمسة عقود اوشك ان يلتحم بهدفه ، وانا اقف حائرة اردد ما قاله  الحكيم العربي … ذات خيبه ( لم امت ولكن هرمت ) .

عشرون وعشرون  مرت وهأنذا اجهز حقائبي واستعد للحاق بمواكب المغادرين وما زال في قلبي الكثير من الامنيات ، شواطىء لم تطأها قدماي ، متاحف لم ازرها ، نوافير لم اسلم  وجهي لرذاذها البارد ، كتب لم اقرأها ، احفاد لم اقبلهم بعد  ، رواية لم اكملها .

اريد استعادة  افراحي ، سذاجتي ، تأملاتي ، انغامي المفضله ،  قهوة الصباح مع صديقاتي ، اريد ان اركض على خط الزمن بالاتجاه المعاكس ، اريد واريد ولكن هيهات  ، فانا لم امت ولكن هرمت .

#أنتهى #