(أريج الأزهار في الصلاة على النبي المختار)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “لَوْ صَلّى العَبدُ على النبي صلى الله عليه وسلم بعددِ أنفاسه لم يكن مُوفياً لِحقه”.
[جلاء الإفهام” (344)].
الشرح البَيِّنُ من كلام ابن القيم
كتب المستشار عيسى بن محمد المَسْكَري
مَنْ مِثلُ محمدٍ، شمس لا تغيب أنوارها، وبدر في وسط السماء قد اكتمل، فضائله بين الخلائق تجملت، أخلاقه فاحت بنسائم الزهر، له الصفات الحميدة، والمحاسن الرفيعة، والمكارم الواسعة، صلَّى الإله على النبي أفضل البشر، ما ناح طيرٌ، أو أمطر مُزنٌ على اليابس أو الغصن أو الشجر.
فقد أعطي صلى الله عليه وسلم الكوثر، وانشقاق القمر، وجوامع الكلم، فهو خاتم النبيين، ورحمة للعالمبن، بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، فهو سيد ولد آدم، بيده لواء الحمد، وهو أول من يقرع باب الجنة، وهو أول شافع وأول مُشفّع.
عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: “لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ يَدْعُو بها، وأُرِيدُ أنْ أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي في الآخِرَةِ”.
[البخاري (6304)، ومسلم (198)].
ولد النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً، ونشأ مسكيناً، وأوذي في الله، وما أوذي أحد مثله، أتت عليه ثلاثون ما بين يوم وليلة وما له طعام يأكله، وعاش بالتمر والماء ثلاثة أهلة، وما أوقد في بيوت زوجاته نار، كان يضع الحجرين على بطنه من شدة الجوع، وكان لا يَجِدُ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ إلا الْدَّقَلِ، أي التمر الرديء.
رموه صلى الله عليه وسلم بالكذب والكهانة، والسحر، وقُذف على ظهره بسلى جزور، واتهم في عرضه، وكُسِرَت رَباعيتُهُ يومَ أُحُد، وشُجَّ حتَّى سالَ الدَّمُ على وجهِهِ، ورُمي بالحجارة، وطرده قومه من بلده، تعرض للأذى والجرح والضيق والحزن والسخرية والاستهزاء حتى كاد أن يقتل.
كان صلى الله عليه وسلم يُوَعَكُ وَعْكاً شَدِيْداً من المرض والحمى، يوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْ الصحابة رضوان الله عليهم، وسرى السم في جسده الشريف فعانى منه صداعاً شديداً، حتى كان يقول: وارأساه.
أقبل عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بمنكبه ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً.
توفيت زوجته خديجة التي كانت معينة له، وتوفي أولاده كلهم في حياته إلا فاطمة، ومات عمه أبو طالب، سنده ودرعه، وقتل أعز أعمامه، حمزة رضي الله عنه.
جاءه ملك الجبال، فقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئاً”.
كم تحمَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أمته، أصيب بمصائب ما أصيب أحد مثله، فصبر وجاهد وهاجر وبَلّغ الرسالة وأدى الأمانة، فلو صلينا على النبي صلى الله عليه وسلم بعدد أنفاسنا ما وفينا حقه.
جاءت المعايير اللغوية في كلام ابن القيم، تختصر لك الفضائل ببلاغة التصوير الحركي من خلال الأنفاس الحيّة والألسنة الرطبة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
فاختصر العبارة بالتشبيه العددي والأدلة المحسوسة والمقارنة التقريبية.
قد يتوقف الإنسان عن الطعام والشراب إن كان صائماً أو شِبَعاً، كما أنه يتوقف عن النوم أو الحركة في أوقات الراحة أو اليقظة، إلا عملية التنفس فإنه لا يستطيع التوقف عنها.
فعملية الشهيق والزفير تعمل بحيوية تامة بلا كلل ولا ملل، إن كان المرء نائماً ليلاً أو يقظا نهاراً، ولو توقف الإنسان عن الزفير والشهيق دقائق أو أقل من ذلك لكان مآله الموت المحقق.
ويتراوح معدل التنفس الطبيعي لدى البالغين ما بين (12 إلى 16) نفساً في الدقيقة الواحدة، أي ما يعادل 720 إلى 960 في الساعة.
فلو صَلّى العَبدُ على النبي صلى الله عليه وسلم بعددِ أنفاسه في كل أوقاته سراً وعلانية، واقفاً أو قاعداً، نائماً أو يقظاً لم يكن مُوفياً لِحقه.
يقول ابْنُ الجَوْزِي: “ِعبَادَ اللهِ، تَعَاهَدُوا الصَّلَاةَ عَلَى حَبِيبنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ خَيْراً، يسّرَ لِسَانَهُ للصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم”.
[بُسْتَانُ الْوَاعِظِينَ (1/300)]
يتبع في الحلقة المقبلة
انتهى