كتب المستشار عيسى بن محمد المسكري
كبن محمد المَسْكَري
(رُبّ نظرة أورثت حسرة)
إستراتيجية ابن القيم (5)))
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ”.
[الجواب الكافي (125)].
الشرح البَيِّنُ من كلام ابن القيم
سيبقى هناك قلة مؤمنة تغض البصر، قلة تتبع أوامر الله بلا فلسفة ولا استخفاف، وتنتهي عن كل ما هو محرم بلا خِيَرَة في تعليل الأمر أو تضليل التفسير، أو مناقشة باطلة لا أساس لها من الصحة أو الدليل.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “فَرُبَّ شَخصٍ أطلَقَ بَصَرَهُ؛ فَحُرِمَ اعتِبَارَ بَصِيرَتِه”.
[صَيدُ الخَاطِر (65)].
من حفظ بصره، حفظ الله بصيرته، ومن غض بصره وجد الأمن والحفظ والانشراح، وأحس بيقظة وقوة وبصيرة.
قال الإمام ابن سيرين رحمه الله: “إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها!”.
[تاريخ بغداد (5/331)].
فمن قدم أوامر الله تعالى وانتهى عما نهى عنه وزجر، رزقه الله نورا في القلب وانشراحاً في الصدر، وراحة في النفس، وقوة في البدن، ورزقا طيباً مباركا في المال والولد.
البصر نافذة الحس والإدراك والتأثير، وله قدرة على تصوير المشهد، يقلبها الشاب بنظره، أو تتأمله الفتاة بلا خجل.
قال الله تعالى: “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ”.
[سورة النور (30)].
عن وكيع قال: خرجنا مع الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا: غض البصر.
[حلية الأولياء (7/ 23)].
عن أنس رضي الله عنه قال: “إِذَا مَرَّتْ بِكَ امْرَأَةٌ، فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ حَتَّى تُجَاوِزَكَ”.
[الورع لابن ابي الدنيا (72)].
ولا نقول بأن النظر يتوقف تأثيره في الشباب فقط، بل هو آفة قد تصيب النساء أيضا كما ورد في سورة يوسف عليه السلام أنّ النسوة قطعن أيديهن من شدة جمال يوسف عليه السلام، وهذا دليل قاطع على أن المرأة كذلك إذا أطلقت بصرها تأثر قلبها مثلما تأثر قلب الرجل.
قال الله تعالى: “وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ”. [النور (31)].
عن أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُه”.
[البخاري (6243)، ومسلم (2657)].
يحتفظ البصر بالمشهد المحرم في الذاكرة خيالاً وتمنياً وشهوة، وقد يبقى هذا المشهد يوماً أو شهراً أو سنة أو أكثر، ليتحول بعدها إلى شريط مصور مدجج بالصوت واللون والرائحة، فيتكرر في الذهن المريض عشرات المرات على حسب قوة التعلق والإعجاب، يتكرر فيجرح موطن الحياء والحس، يتكرر كحلقة تلفزيونية مؤججة للمشاعر، حية بالأحاسيس، متحكمة بالعواطف، يتكرر فيؤثر في القلب كسهم قاتل يمر عبر هذه النافذة، أو شرارة قد تترك وراءها نيراناً محرقة.
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: “رب نظرة أوقعت في قلب صاحبها شهوة ورب شهوة أورثت صاحبها حزنًا طويلًا”. [الزهد للإمام أحمد (479)].
قال ابن القيم رحمه الله: “النظرة تفعل في القلب، ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله، جرحته”.
[روضة المحبين (97/1)].
يقول أحد الشعراء:
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشررِ
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وترِ؟
والعبد ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوفاً على الخطرِ
يُسِر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضررِ
فلا تتبع النظرة بالنظرة، فإن الأولى لك، والثانية عليك، ومن أبقى نظره في الأولى – أي حملق بنظره – فهي عليه كالثانية.
فمن أطلق بصره بلا مراقبة ولا وازع إيماني، عوقب بوحشة مضطربة وظلمة مؤلمة. فإطلاق البصر كما يقول ابن القيم يورث الوحشة بينه وبين ربه قد يتحول بعد فترة إلى مشاعر سلبية تقض مضجعه، وتنغص عليه معيشته، فيحس بالضيق و الضنك ونكد العيش وتبدل المزاج وغيرها.
قال ابن تيمية رحمه الله: “العاصي وإن تنعّمَ بِأصناف النّعم، ففي قلبه مِن الوحشةِ والذلّ والحسراتِ التي تقطّع القلوب”.
[الجواب الكافي (120)].
يقول أحد الشعراء:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا
لِقَلْبِكَ يومًا أَتعَبَتْكَ المَنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيهِ
وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
وكما علل علماء النفس اليوم بخطورة المعصية التي تترك وراءها أمراضاً نفسية غريبة لم يجدوا لها تفسيراً، وأكثر هذه المصائب من هَمّ وكدر وقلق وضيق سببها مخالفة أوامر الله. نعوذ بالله تعالى من الهم والغم والحزن.