(أسباب حرمان لذة العِلْم)
كتب المستشار الأسري الأستاذ عيسى بن محمد المسكري
قال الإمام ابن القيم: رحمه الله: “ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللَّذة -لذَّة العلم- وعِظم قدرها، لتجالدوا عليها بالسُّيوف ولكن حُفَّت بحجابٍ من المكارة، وحُجبوا عنها بحجابٍ من الجهل، ليختصَّ الله لها من يشاء، والله ذو الفضل العظيم”.
[مفتاح دار السَّعادة (1/ 109)].
الشرح البَيِّنُ من كلام ابن القيم
الصبر في بداية الطريق هِمّة، والثبات على هذا المسلك إرادة، وإلزام النفس ما تكره قوة، والخوض في المسائل العلمية بعد ذلك متعة، والاستسقاء من نبع العلم الصافي لذة.
فمن تذوق حلاوة العلم ساعة لم يجد أطيب منها مذاقاً، ولا أحلى منها شهوة، ولا أفضل منها أنساً.
إنها لذة لا تعادلها لذة، لذة يجدها الطالب عندما يزيل حواجز الجهل، ويحطم عوائق النفس.
لذة يجد حلاوتها عندما يعتكف في محراب العلم مع الكتب يقلب أوراقها، يأنس بأطايبها، يقطف من ثمارها، يتجول على ضفافها، يستخرج منها أجمل اللآلئ وأغلى الدرر.
وفي هذا يقول أحد الشعراء:
ما تطعمتُ لذةَ العيشِ حتى
صرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا
ليس شيءٌ أعزَّ عندي من العلم
فَلَم أبتغ سواه أنيسا
ويقول شاعر آخر:
نِعمَ الأنيسُ إذا خلوتَ كِتَابُ
تَلهو به إن خانَكَ الأحبابُ
لا مُفشِياً سرّا إذا استودعتَهُ
وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ.
إنها لذة العقل في مدارج التفكر والتأمل والتحليل والفهم والاستنتاج. لذة القلب في منازل اليقين والبصيرة والفراسة والخشيةِ.
فلا لذة للعلم بلا مشقة في بداية الطريق، ولا متعة يحس بها الطالب ما لم يَبْن حياته على الصبر والقوة والاجتهاد.
ولولا جهل الأكثرين بلذة العلم لتجالدوا عليها بالسيوف حتى ينعموا بها، ويظفروا بحلاوتها، ولكنهم حرموا هذه اللذة لأنها حُفَّت بحجاب من المكارة وحُفَّت بحجاب من الجهل.
يقول أحد الشعراء:
فَلَو قَد ذُقتَ مِن حلواه طَعماً
لَآثَرتَ التَعَلُّمَ وَاِجتَهَدتا
وَلَم يَشغَلْكَ عَنهُ هَوى مُطاعٌ
وَلا دُنيا بِزُخرُفِها فُتِنتا
وَلا أَلهاكَ عَنهُ أَنيقُ رَوضٍ
وَلا خِدر بِرَبرَبِهِ كَلِفتا
وهناك لذة خفية لا تظهر إلا بعد ما يتعدى المجتهد عوائق السير، ويتحرر من قيود الهوى، فالعلم في بداية السير حُفَّ بأشواك قد تكون مؤلمة تجرح النفس وتؤذي الحس، ولا بُدَّ دون الشهْد من إبَرِ النحْلِ.
وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى نوع من أنواع الحجاب الذي يسد عن بلوغ هذه اللذة بقوله: حُفَّت هذه اللذة بحجاب من المكارة.
فقد يجد مريد العلم في بداية السير ضبابية في تحقيق الغاية تعوق النظر، وتعمي الرؤية، وتبعد عن المسلك الجاد، وأشد ما يعوق عن بلوغ المرام حجاب الجهل.
بل قد يجد الطالب وحشة بين فترة وأخرى تضعف الإرادة، وتصد عن المراد، وتطمس المبتغى، فيعلو الجهل منتصراً، ويأخذ صاحبه إلى أسفل المهالك.
فمن لم يتذوق حلاوة العلم، ولم يجد في الكتب متعة، ولا في مجالس العلماء لذة، اكتوى بنيران الجهل، وَمَهانة الحرمان، ووحشة الحَيْران.
قال أهل العلم: إن أشرف العلوم هي العلوم الشرعية، كأحكام العبادات والواجبات والمعاملات، وفقه الحلال والحرام، وعلم الكتاب والسنة، وأشرف العلوم الشرعية على الإطلاق هو العلم بالله، ومعرفة أسمائه الحسنى، وصفاته العُلى.
ويخطئ من يقول نحن أمة “اقْرَأْ”، كشعار مجرد من التوجيه والمقصد والغاية، بل نحن أمة “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”. وكما قال الله تعالى: “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله”. [محمد (19)].
فالله يختصّ من عباده من يحمل هذا الدين علماً وفهماً وعملاً وتعليماً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فينعم بكرم، ويجود بفضل، ويرزق من يشاء بغير حساب.
عَن أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: الله ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: “الله لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ”. [البقرة (255)]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: والله لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ.
[صحيح مسلم (810)].
انتهى